ثم هذا الكتاب -كتاب الجنايات- لما كان أخطر وأشد ما فيه ما هو مثار الخصومة، والجدل بين الناس، ويحتاج القضاة والمفتون إلى معرفة أحكامه، والفصل بين الناس فيما شجر من مسائله؛ يركز العلماء كثيراً على القصاص؛ لأن الله عز وجل شرعه للعدل بين الناس، وبين الخلق، فأمر بالقصاص من الجاني، كما أمر بالقصاص في النفس وما دون النفس، ففي النفس من قتل يقتل، وما دون النفس؛ من قطع يداً قطعت يده، ومن كسر سناً كُسرت سنه، ومن فقأ عيناً فُقأت عينه، كما بين الله سبحانه وتعالى ذلك في كتابه.
فهذا القصاص يحتاج أولاً أن تبحث عن الأسباب التي توجبه متى يحكم بوجوب القصاص، ومتى لا يحكم به؟ فتارة تقول: هذا القتل يوجب القصاص، أو هذا القطع لليد يوجب القصاص، فالأول جناية على النفس، والثاني جناية على الأطراف.
وتارة تقول: هذا القتل لا يوجب قصاصاً، وإنما يوجب دفع الدية، وهو قتل الخطأ، وتارة تقول: هذا الاعتداء على هذه اليد لا يوجب قصاصاً بقطع يد المعتدي، ولكن يوجب دفع نصف الدية، أو هذه الجناية فيها مثلاً خمس من الإبل، أو فيها مثلاً عشر الدية، أو نحو ذلك.
إذاً هناك ما يوجب القصاص، وهناك ما لا يوجب القصاص، وهذا ما يبحثه العلماء في بيان ضوابط قتل العمد، وقتل شبه العمد، وقتل الخطأ.
وقد امتاز الفقه الإسلامي بوضوح قواعده، واشتمالها على العدل والإنصاف، فالشريعة ليس فيها خلط للأمور، وليس فيها ما يوجد اللبس على الإنسان؛ لأن الله تعالى وصفها بالتمام، والكمال، وما بني على أصل صحيح فإن ثماره وعواقبه تكون صحيحة، فالشريعة مبنية على العدل:{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[الأنعام:١١٥]، سبحانه وتعالى، فقد وضعت الشريعة القواعد والأصول التي يبنى عليها الحكم بثبوت القصاص، والحكم بعدم ثبوته، ومن هنا يبحث العلماء أول شيء: ضوابط الأنواع الثلاثة التي ذكرناها: قتل العمد، وقتل الخطأ، وقتل شبه العمد.