بالنسبة للأمثلة السابقة تلاحظ أن الجهالة مستحكمة فانظر إلى دقة المصنف: فقد ابتدأ بالحمل فقال: (وبيع حمل في بطن)؛ لأن الجهالة هنا تجمع عدة وجوه: أولاً: تجهل هل الحمل حيٌّ أو ميت؟ ثانياً: تجهل هل هو كامل الخلقة أو ناقص الخلقة؟ ثالثاً: تجهل السلامة وهي العاقبة، فحتى ولو كان حياً الآن فلا ندري أيخرج سالماً أو غير سالم؟ فاستحكمت الجهالة من أكثر من وجه فقدّمه، وأتبعه باللبن في الضرع؛ لأنه يجهل القدر ويجهل الحال، فهذان نوعان من الجهالة، فالأول فيه ثلاثة أنواع من الجهالة، والثاني فيه نوعان من الجهالة، ثم أتبعه بالنوى داخل التمر، فإنك وإن علمت عدد النوى فإنك لا تعلم صفته: أجيّد هو أو رديء؟ فهذا نوعٌ من الجهالة، ثم جاءك بالمنكشف الذي تراه أمامك، ولكنك تجهل ما يكون من عاقبته وهو الصوف، فالصوف على ظهر البهيمة لا تدري قدره؛ لأنه إذا جُزّ تكون له حال غير حاله وهو على ظهر البهيمة، فحينئذٍ لا تدري أيجز فيكون جزه كاملاً أو جزه ناقصاً؟ ثم لا تدري أجيداً يكون أو رديئاً؛ لأنه على ظهر البهيمة ربما أطبق بعضه على بعض ولا تستطيع أن تكشفه، وهنا تكون الجهالة أيضاً من وجه، فكأن الأمثلة مرتب بعضها على بعض على حسب قوة الجهالة، والعلماء كأنهم ينبهونك على الأشياء التي اجتمعت فيها الجهالة من عدة أوجه، وما كانت الجهالة فيها من وجهين، وما كانت الجهالة فيها من وجه واحد؛ لأنه لو ذكر المصنف الأمثلة الأولى -وهي بيع اللبن في الضرع، والجنين في البطن، والنوى في التمر- وسكت ربما جاءك شخص وقال: يجوز بيع الصوف على الظهر؛ لأن المصنف إنما ذكر المغيب المجهول ولم يذكر الظاهر المجهول، فكأن المصنف من دقته يريد أن يقول لك: لا يقتصر الحال على المجهولات التي تكون في بطن الأشياء، بل إن المجهول قد يكون على ظهر الشيء ولا يجوز بيعه، كالصوف والشعر على ظهر البهيمة، كلّ ذلك مما يجهل حاله ولا يدرى عاقبته، وكما لو باعه جلدها يقول له: هذه البهيمة أبيعك جلدها بعشرة، فهذا جهل السلامة؛ لأن الجزار إذا أراد أن يفصل الجلد عن البهيمة قد يَقُدُّ الجلد، ولا ندري حتى ولو خرج الجلد سالماً أهو من الجلد الثخين فيصلح في حفظ الأشياء التي لابد أن يكون الجلد فيها ثخيناً، أو يكون من الجلد (الرهيف) والرقيق، وهذا يختلف من بهيمة إلى أخرى، فإذاً: الأمثلة مرتبة من المصنف لمعنى ومغزى.