للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[أدلة تحريم الظهار من الكتاب والسنة]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الظهار] تقدم معنا بيان بعض المقدمات المتعلقة بكتاب الظِهار، وبينّا حقيقة الظِهار وأركان الظِهار، ونبهنا على بعض المسائل المتعلقة بتلك المقدمات.

ثم شرع المصنف رحمه الله في بيان حكم الظِهار، فقال: [وهو محرم].

أجمع العلماء رحمهم الله على أنه محرم، والأصل في تحريمه كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة وإجماع أهل العلم رحمهم الله، كما أن دليل العقل يدل على تحريمه.

فأما دليل الكتاب فإن الله سبحانه وتعالى بيّن أن الظِهار منكر من القول وزور، كما قال تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة:٢]، والمنكر والزور محرمان، فلما وصف الله عز وجل هذا القول بهذا الوصف أشعَر بالتحريم، وبيّن أنه غير جائز شرعاً، فعند علماء الأصول أنه إذا ورد الذم للشيء في الكتاب أو السنة فإن هذا يدل على حرمته، خاصة إذا كان الذم قوياً مرتقياً إلى درجات الكراهة التحريمية.

والذم ينقسم إلى قسمين: الذم الشرعي، والذم الطبعي.

فهنا ذم شرعي؛ لأن الوصف بكونه منكراً وزوراً مذموم شرعاً، فدل على أنه محرم، وهذا أولاً.

ثانياً: أن الله سبحانه وتعالى بيّن وجوب الكفارة على من قال الظِهار وأراد أن يعود، فإيجاب الكفارة على الظِهار دال على حرمته، كما أن إيجاب الكفارة على الجماع في نهار رمضان دال على حرمته، وإيجاب الكفارة على القتل الخطأ دال على حرمته في الأصل، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء:٩٢]، فدل على أنه شيء في الأصل محرم، فالمقصود أن الآيات الكريمة دلت على حرمة الظِهار من هذه الوجوه، ومنها قوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة:٢]، فبيّن أنه يعفو ويغفر، فدل على أن هناك موجباً للإساءة والذنب الذي يترتب عليه العفو والمغفرة.

فلما ختم آية الظِهار في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة:٢] بهذين الوصفين -العفو والمغفرة- دل على أن الظِهار موجب للذنب والإساءة من قائله.

أما السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أوس رضي الله عنه وأرضاه ظِهاره لامرأته، وأوجب عليه التكفير، وهذا يدل أيضاً على ما دل عليه دليل الكتاب من حرمة الظهار.

كذلك أيضاً أجمع العلماء على أن الظِهار محرم.

وأما دليل العقل فلأن الشريعة قامت على جلب المصالح ودرء المفاسد، ولا شك أن الزوجة إذا امتنع زوجها منها وقال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي.

فإن هذه مفسدة عظيمة؛ لأنها تحرم الرجل على امرأته، وتحرم المرأة على زوجها.

وحينئذٍ يتعرض الرجل للحرام وتتعرض المرأة للحرام، ولا شك أن أصول الشريعة دالة على دفع الضرر، وهذا من أعظم الضرر، ثم إن الشريعة أقامت النكاح على الإمساك بالمعروف، فأصول الشريعة دالة على أن الزواج والنكاح ينبني على العشرة بالمعروف، فيمسك المسلم زوجته بالمعروف، وليس من المعروف أن يجعلها بمثابة الأم وهي ليست بأم له، فيمتنع من عشرتها، ويمتنع من الإحسان إليها والقيام بحقوقها، بناءً على هذا اللفظ.

فدليل العقل أن الظهار يتضمن الضرر والإساءة، وذلك موجب للوصف بالتحريم؛ لأن كل ما فيه ضرر على المسلم والإساءة إلى المسلم فإنه محرم شرعاً، والسبب في كون ما يوجب الإساءة والأذية والضرر محرماً أن فيه اعتداءً، والله عز وجل يقول: {وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة:١٩٠]، وقال: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:٢] فهذا اعتداء؛ لأن الزوج اعتدى على زوجته.

ومن هنا جاءت امرأة أوس وشكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: نثرت له ما في بطني، ولما رق عظمي وضعف بدني ظاهر مني، إلى الله أشكوه.

فهذا يدل على أنه فيه ضرراً وإساءة، والشريعة جاءت لدفع الضرر والإساءة والاعتداء على الغير.

فمن هذا كله نخلص إلى القول بإن الظِهار محرم.

وهذه الحرمة من أعظم أنواع الحرمات، أي أنه محرم لأنه كبيرة من كبائر الذنوب؛ لأن المحرمات فيها ما هو صغير وفيها ما هو كبير، فالظِهار من كبائر الذنوب، وكبائر الذنوب تنقسم إلى: كبائر متعلقة بالاعتقاد.

وكبائر متعلقة بالقول.

وكبائر متعلقة بالعمل.

فالظِهار من الكبائر المتعلقة بالأقوال، ويشارك غيره من الكبائر القولية، أي أنه ليس بذنب معتاد، أما الدليل على كونه كبيرة فعند طائفة من العلماء رحمهم الله أنه إذا ترتبت الكفارة المغلظة على فعل دل ذلك على حرمته في الأصل، وأنه من الكبائر.

ومن هنا أوجب الله عز وجل على من جامع في نهار رمضان كفارة، واعتبر ذلك من كبائر الذنوب من حيث الأصل؛ لما فيه من الاعتداء إذا تعمد جماع امرأته في نهار رمضان، ومن هنا يقول بعض العلماء: إن ورود العقوبة على فعل الشيء -سواء أكانت بدنية أم مالية- تدل على أنه كبيرة من كبائر الذنوب.

ومن هنا قالوا: إن شرب الخمر كبيرة، وإن الزنا كبيرة؛ لأن فيها عقوبة شرعية مقدرة، والكفارات نوع من العقوبة؛ لأنها عقوبة في البدن وعقوبة بالمال، وعقوبتها بالمال أن فيها تكفيراً للرقبة، وفيها إطعام ستين مسكيناً، وهذه عقوبة مالية؛ لأن الرقبة مال، فيحتاج أن يشتري رقبة ليعتقها، ويشتري طعاماً ليطعم ستين مسكيناً، وفيها عقوبة بدنية؛ لأنه يصوم شهرين متتابعين.

وعلى هذا لا يشك أحد أن مثل هذا القول الذي عوقب عليه بهذه العقوبة في أنه يصل إلى حد الكبائر، ولو كان من صغائر الذنوب لما ترتب عليه الكفارة؛ لأن الصلوات الخمس تكفر ما بينها من صغائر الذنوب، وأمرها أيسر من الكبائر ولو أن الكل ذنب وخطيئة.

قوله رحمه الله: [وهو محرم] الضمير عائد إلى الظِهار، وابتدأ المصنف رحمه الله كتاب الظِهار ببيان حكمه لأن أول ما يحتاجه طالب العلم في الشيء معرفة مقدمات تخص ذلك الشيء، وبعد ذلك معرفة موقف الشرع منه، فهل هو جائز أم لا؟ وإذا كان جائزاً فهل يلزم به الشرع أو لا يلزم؟ وإذا ألزم به فهل هو في مقام الواجبات أو المستحبات؟ وإذا كان غير جائز شرعاً فهل هو محرم أو مكروه؟ وهل حرمته مغلظة أو غير مغلظة؟ فقال رحمه الله: [وهو محرم].

<<  <  ج:
ص:  >  >>