للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الحذر من خطر دعوى التدرج في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى]

السؤال

تدرج الله سبحانه وتعالى في تحريم الخمر، هل فيه دليل على أننا نتدرج أيضاً في نصيحة الناس في أي معصية من المعاصي؟

الجواب

هذه المسألة ينبغي الحذر كل الحذر منها، وأحب أن أنبه إخواني جميعاً أن يتقوا الله عز وجل في الدعوة إلى الله، وأن يعلموا أن أمور الدعوة ينبغي أن يُنتهج فيها المنهج الذي بينه الله في كتابه، وبينه رسول الهدى صلى الله عليه وسلم في سنته، ولا أحسن ولا أجمل ولا أكمل ولا أعلم ولا أحكم من هذا الشرع والطريق والسبيل، قال تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [الأنعام:٥٧]، والبينة: الأمر الواضح الذي لا اختلاج فيه ولا خلل، لكن بينة مِنْ مَن؟ من ربه، وبين الله تعالى أنه على هدى، وأنه على صراط مستقيم، وأنه يدعو إلى هذا الهدى، وإلى الصراط المستقيم، إذا ثبت هذا؛ فلا يجوز لمسلم أن يدخل يجتهد في مجالات الدعوة برأيه، ويتحكم في الأمور بهواه، دون أن يكون قد ورث عن أهل العلم العلم الشرعي والبصيرة، عليه أن يتقي الله عز وجل، وألا يغش أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

والأصل الشرعي يقتضي أننا إذا نزل النص بتحريم أمر أن نبلغ الناس أنه حرام، فلو أنه دخل على رجل يشرب الدخان، لا يأتي ويقول له: والله! الدخان ما هو طيب، لكي يقول له بعد ذلك: الدخان حرام، فيقول له في اليوم الأول: الدخان ما هو طيب، أو يقول له: إن الأطباء يقولون: إن الدخان فيه أضرار، فيبدأ يقنعه عقلياً، ثم يقنعه نقلياً، افعل ذلك إذا ظننت أنك تبقى إلى غد، أو يبقى هذا الشخص إلى غد، فلو مات ولم تقم حجة الله عليه، وكان بإمكانك أن تقول له الحق، فستلقى الله عز وجل به، ولذلك لا يجوز تأخير الحجج والبراهين والإعذار إلى الله عز وجل في خلقه، ومن أغرب ما ترى! التساهل في إقامة الحجج، أما من يسير على المنهج السوي، يأتي إلى الشخص ويقول له: يا أخي! دل الدليل من كتاب الله عز وجل، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم على أن هذا الخمر حرام، فاتق الله عز وجل، ودع ما حرم الله يغنك الله، ويكفك بحلاله عن حرامه، يا هذا! اتق الله في نفسك، واتق الله في مالك، واتق الله عز وجل في حدود الله التي أمرك الله باجتنابها، فيعطيه الأمر واضحاً.

فإذا نظرت: وجدت الداعية الذي يسير على هذه الأمور الواضحة مباركاً له في دعوته، ومن يلتزم بسببه يلتزم بقوة، ويلتزم باستجابة للحق، بخلاف الذي يرقع له، ويحاول أن يلطِّف يلطف يلطف حتى إنه لربما جاءت عزائم الإسلام فنكص على عقبيه والعياذ بالله! فهو يلتزم بين بين! إن نظر إلى مجلس فيه ضحك ولهو، وأُخذت أمورالدعوة بإضحاك الناس واللهو معهم؛ استقام على دين الله، فإن خرج إلى مجلس فيه جد، وفيه أحكام الشريعة، وفيه سنن الهدى التي تستنير بها البصائر ضعفت نفسه، ولربما قال كلمة يزل بها إلى لقاء الله عز وجل، فيقول مثلاً: هذا تعقيد! وتجد بعضهم يستحدث في الدعوة أموراً غير شرعية، ويقول: لا تدع الناس مباشرة! بل إن بعضهم-والعياذ بالله- يأخذ آلات اللهو ويضربها لمن يدعوهم حتى يجذبهم إلى الإسلام! إنا لله وإنا إليه راجعون، من الذي قال لك: إن هذا الحرام قد صار حلالاً لك؟! ومن الذي فتح لك أبواب المحرمات تستبيحها في سمتك ودلك وتستخف بدين الله عز وجل هذا الاستخفاف؟! من الذي قال لك: إن هذا الدين ضحك ولهو؟ هذا يماثل قلوب الذين: {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} [البقرة:٦٧]، والهزو: الضحك، {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:٦٧]، فموسى نبي من أنبياء الله برأ رسالته التي بعث بها أن تكون بطريق الجهل، فالدين علم وبصيرة، كما قال الله: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:١٢] أي: بعزيمة، وصبر، وتحمل، ومناهج واضحة، وحجج بينة، هذا ربك، وهذا دينك، وهذا نبيك، توصيه بطاعة الله عز وجل وتقواه، وتقرعه بقوارع التنزيل إن كان مثله يقرع، أو تأخذه بمحاسن الإسلام ترغيباً، ولك في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم من الحجج الواضحة البينة ما ترق به القلوب، فليس الإسلام بهذه التأويلات وهذه التعسفات، ولا تجد هذه التأويلات عند أهل العلم والبصيرة، ولذلك تجد أهل العلم الذين عرفوا كتاب الله، وعلموا حلاله وحرامه، الراسخون في العلم؛ لا يدعون الناس بمثل هذه التهكمات، وبمثل هذه الاجتهادات، هذه تجدها عند أناس مفلوتين لا زمام لهم ولا بصيرة، تجدهم الواحد منهم يختلق في دين الله وفي دعوته ومنهجه فكراً جديداً؛ لكي يضيفه لنا، وكأن الشريعة ناقصة! الشريعة منهج واضح، ليس فيها اجتهاد ولا تأويل، فيما لا اجتهاد فيه ولا تأويل، فطرق الدعوة واضحة، ومناهج الدعوة واضحة، ومن هنا يقول الله عز وجل: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق:١٣ - ١٤]، أسلوب التوكيد: (إنه) أي: إنه شرع الله الذي في القرآن، الذي هو الفصل والأساس، فالتدرج عطفاً على الناس، واستخدام الأساليب المضحكة والملهية لتأليف الناس، هذه أمور خلاف المنهج والسنن، وينبغي للإنسان أن يرتبط بمنهج الكتاب والسنة، وأن يصحح مساره، وأن يعرف كيف يدعو! وما هو الأصل! وقد عايشنا العلماء، وجالسنا أئمة من أهل الفضل، ممن فسر كتاب الله عز وجل عشرات السنين، وممن فسر السنة عشرات السنين، فيأتيهم من هو أشقى الناس، ونعرف أن من دخل عليهم من أفسق الناس فجوراً وانتهاكاً لحدود الله عز وجل، وقد كان بالإمكان أن يضحك معه أو يلهو معه، فإذا به يقف معه الموقف الواضح البين، ويقول له: هذا دين الله وشرعه.

سبحان الله! حينما أدعو الناس بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فأقرأ عليهم كتاب الله، وأذكرهم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وما استجابوا، وقامت عليهم الحجة، هل معنى ذلك أن الكتاب والسنة نفرة؟ لا أبداً، الخلل ليس في كتاب الله، ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، إنما في النفوس والقلوب، فهي التي تستجيب، فإن وعت وأراد الله هدايتها فالحمد لله، وقد كان رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أصدق الناس مقالاً، وأوضحهم منهجاً واعتدالاً، وعلماً بالحكمة ومواضعها، ومع ذلك قال بقول الله عز وجل، وبلغ عن الله صلوات الله وسلامه عليه، ولم يأخذ الناس بالسخرية، ولا باللهو والضحك.

ذُكر عن بعض هؤلاء أنه في محاضراته -والناس يحضرون من أجل أن يسمعوا منه- يمثل للمرأة: كيف تتدلل! وكيف تضحك! من أجل أن يضحك الناس! هذا انحطاط وحط لقدر الشريعة، الشريعة لها مكانة وقدر، على الإنسان أن يستبين منهج الله عز وجل، لا يقول لك شخص: قم وادع بما فتح الله عليك! فتأتي بالطوام، وبالأمور الغريبة العجيبة التي تصطدم مع الشرع تماماً.

حدث لبعض هؤلاء موقفاً: استدعاه بعض مشايخنا رحمة الله عليه؛ لأنه جاء وأضحك الناس في زواج، فقال كلاماً من أجل إضحاكهم، فقال: مو يهديني! ثم استدعاه شيخنا رحمه الله وهو الوالد، وقال له: يا فلان! هل حضرت زواج فلان؟ قال: نعم، قال: هل قلت: كذا وكذا؟ قال: يا شيخ! قلت ذلك، والحمد لله، نفع الله بذلك القول، وما أريد إلا الخير، قال: أوكل مبتغ للخير مصيب له؟! يا هذا! اتق الله في أمة محمد صلى الله عليه وسلم! تأتي على مرأى ومسمع من الناس لتضحكهم، وتستخف بدين الله عز وجل؛ لأنه قال كلمة عجيبة، وقال كلمة غريبة ينزه الشرع عنها، ثم قال له: أتعرف أن هذه الكلمة بعض العلماء يراها كفراً واستهزاءً بالدين؟! قال: أعوذ بالله! ما كنت أظن هذا، قال: إذن أنصحك أن تجثو على ركبتيك في مجالس العلماء؛ حتى تتأهل للعلم، والدعوة والبصيرة.

وانظر إلى العلماء كيف يدعون الناس! وكيف يغضبون في مواطن من حقهم فيها أن يغضبوا! وكيف يأخذون الناس بالتي هي أحسن في مواطن يحسن فيها أخذهم بالرفق! إذاً لا بد أن نرجع إلى كتاب الله عز وجل، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولذلك قلّ أن تجد مناهج تخرج عن هذا الأساس، ويوضع فيها البركة، ولا يمكن أن تستقيم أمور العبد بغير كتاب الله عز وجل، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقول تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:١٥٣]،هذه الوصية كان ابن مسعود يقول: (من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ.

} [الأنعام:١٥١]، وآخر هذه الوصية وكلها مسك: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي) صراط الله، ما هو صراط الله؟ قيل: هو القرآن، فمن دعى بعلم بالقرآن وبصيرة بالقرآن فإن الله يبارك دعوته، ويبارك قوله وعمله، حتى لو لم يستجب لدعوته إلا عشرة؛ فإنهم خير من ملء الأرض ممن يستقيم على الترهات والضحك، والاستخفاف والعبث، ولذلك كم وجدنا، وكم سمعنا من أخبار عجيبة ممن يختلق هذه الأمور في الدعوة! فيتدرج في أمور الحكم فيها واضح، ويأتي يريد أن يختلق للناس تدرجاً في الأحكام! كم سمعنا من محق للبركة في دعوتهم! وكم وجدنا من الآثار التي لا يحمد عقباها لمن دعوهم! لأن الله يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:١١]، قال بعض العلماء: إني لأعرف من عبث مع البعض فأدخله باللهو والضحك، حتى جلس عشر سنوات على التزام، فجاءته مصيبة فانتكس فمات شر ميتة-والعياذ بالله-، فهو يلتزم على أشياء محدودة، ومن العجيب أنك تسمع بعضهم يقول: إذا أردت أن ترى الداعية الحق فاذهب إلى فلان، فهؤلاء هم الذين يعرفون كيف يدعون! وهؤلاء هم الذين يعرفون كيف يؤثرون! إن الذي يعلم التأثير، ويعلم مواطن التأثير هو الله وحده المطلع على السرائر والضمائر، وهو سبحانه الذي يضع البركة لمن ابتع كتابه، وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وليس هذا أو ذاك، الله وحده هو المطلع على السرائر والضمائر، والمطلع على عواقب هذا الوحي، وآ

<<  <  ج:
ص:  >  >>