[استحباب مخالفة الطريق]
قال رحمه الله تعالى: [ويسن أن يرجع من طريق آخر]: ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (كان يذهب من طريق ويرجع من آخر).
واختلف العلماء في سبب ذلك، فقال بعضهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذهب من طريق ويخالف في الرجوع فيرجع من طريق آخر، لكي يمر على أكثر عدد من المساكين والضعفاء، فيحسن إليهم -صلوات الله وسلامه عليه-، ويكرمهم، ويدخل السرور عليهم، خاصة أن يوم العيد يندب فيه إدخال السرور على ضعفة المسلمين من المساكين والفقراء ونحوهم، فقال أصحاب هذا القول: إن ذهابه عليه الصلاة والسلام -كما في حديث جابر - من طريق ورجوعه من طريق آخر يعتبر من هذا الوجه سنة يقتدى فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم ويهتدى بهديه، وليست من السنن الخاصة به عليه الصلاة والسلام، وبناء على ذلك فإنه يسن للإنسان إذا مضى للعيد أن يمضي من طريق وأن يرجع من طريق آخر، حتى يمر على عدد كبير من الضعفة والفقراء، فيحسن إليهم ويواسيهم، فهذا استحبه جمع من العلماء رحمة الله عليهم.
لكن على هذا التخريج لو كان الإنسان راكباً دابته، أو على السيارة كما هو موجود في عصرنا اليوم، أو ما في حكمها، فإنه قد يتعذر عليه صلة المساكين والإحسان إليهم، فيكون أمر السنة فيه من هذا الوجه أضعف.
الوجه الثاني: قالوا: ذهب النبي صلى الله عليه وسلم من طريق ورجع من طريق آخر حتى تكون شهادة الخير له من الأرض أكثر، وذلك أن الأرض تشهد بما عليها من الخير، وتحب أن يوطأ عليها إذا كانت تلك الخطوة أو ذلك المشي في طاعة الله، كما قال سبحانه وتعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:٢٩]، قالوا: إن العبد الصالح تبكيه الأرض من كثرة ما كان يعمل عليها من خير، وتبكيه السماء لما كان يصعد من عمله الصالح إلى الله جل وعلا، ويكون فقده على هذا الوجه موجب لبكاء السماء والأرض عليه، فالنبي صلى الله عليه وسلم حينما مضى للعيد من طريق ورجع من طريق آخر، قصد من هذا أن تكثر الخطا على الأرض، فبدل أن تكون من طريق واحد وتكون الشهادة لطريق واحد، تكون الشهادة لأكثر من طريق، وإلى هذا المعنى أشار عليه الصلاة والسلام بقوله: (يا بني سلمة: ديارَكم تُكتبْ آثارُكم، ديارَكُمْ تُكْتبْ آثارُكُمْ، دياركْمْ تُكْتَبْ آثارُكُمْ) أي: الزموا دياركم البعيدة عن المسجد، فإن الله عز وجل يكتب لكم هذه الآثار إلى طاعتكم.
وأفضل الطاعات الصلاة، فكأنهم يقولون: كون الإنسان يمضي لصلاة العيد من طريق ويرجع من طريق آخر يكون شهود الأرض له بأرض غير التي شهدت بذهابه، فهذا أفضل في الخير وأكثر، وعلى هذا الوجه تكون الفضيلة والسنة آكد لمن يمشي على قدميه لشهود الخير، ومن ركب على دابته فإنه دون ذلك.
الوجه الثالث: قال بعض العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم مضى إلى العيد من طريق ورجع من طريقٍ آخر من أجل أنه أرفق به عليه الصلاة والسلام، أي: أخف عليه، فكأنه ذهب من طريق لأنه أضيق، ورجع من طريق آخر لأنه أيسر في الرجوع، وبعض الطرق أخف في الذهاب ولكنه أثقل في الرجوع، وبعضها أخف في الرجوع ولكنه أثقل في الذهاب.
والصحيح من هذه الأقوال الأول، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا أكثر من مرة، فلما دخل مكة دخلها عليه الصلاة والسلام من ثنية كداء من جهة القبور والمعلاة، وخرج من أسفلها، وإن كان بعض العلماء يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل من ثنية القبور التي تسمى الآن الحجون.
قالوا: والسبب في هذا أنه فعله من أجل إعزاز الإسلام، أي أنه عليه الصلاة والسلام خرج إلى الهجرة متخفياً في ظلام الليل وسواده، ودخل في وضح النهار من أعلى مكة حتى يكون أبلغ في عزة الإسلام وإظهاره.
كذلك قال بعض العلماء: إنه ذهب للعيد من طريق ورجع من طريق آخر لإغاظة المنافقين، وذلك أن شعائر الإسلام تغيظهم، وكان المنافقون في المدينة يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة، وتنطوي قلوبهم على ما لا خير فيه للإسلام والمسلمين، فقصد إغارة صدورهم.
والصحيح أنه لكثرة شهود الخير، ولكثرة الإحسان إلى الناس، ويدل على هذا أنه عليه الصلاة والسلام ذهب إلى عرفات من طريق ضب، ورجع إلى المزدلفة من طريق المأزمين، وهذا سنة للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره، وقد تكرر هذا في حجه صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك أيضاً في ذهابه للعيدين.
وبعض العلماء يقول: هذه سنة جبلية محضة، خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يتأسى به، والصحيح أنها من السنن التي يقتدى فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو ذهبت إلى عرفات من طريق ضب، ورجعت من طريق المأزمين فإنك تكون مصيباً للسنة ومتأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشرع الاقتداء والتأسي بمثل هذا.
والسبب في هذا وأن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم منها ما يشرع التأسي به بالإجماع، ومنها ما يكون جبلياً خاصاً به، ومنها ما يحتمل أن يكون جبلياً ويحتمل أن يكون هدياً، فهذا الفعل وهو ذهابه إلى العيد من طريق ورجوعه من طريق آخر اختلف العلماء فيه: فبعضهم يقول: هذا سنة جبلية لا يتأسى ولا يقتدى به فيه؛ لأنه أرفق به، فغيره لا يشاركه في هذا، وهذا قول ضعيف.
والصحيح مذهب الجمهور أنه سنة يتأسى ويقتدى فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيشرع لك أن تذهب من طريق، وأن ترجع من طريق آخر لعمارة الطرق بذكر الله، ولكي تشهد لك الأرض بما يكون عليها من الخير.
وقد أخذ العلماء من هذا سنة عامة، فقالوا: إذا ذهبت إلى أي عمل خير كصلة رحم، وبر والدين، وطلب علم، ونحو ذلك من الخير فلتذهب من طريق ولترجع من طريق آخر؛ لأنك لا تزال في خير حتى ترجع إلى بيتك، فمن خرج إلى طاعة الله عز وجل فهو في طاعة، ويكون في رحمة الله حتى يرجع إلى مكانه، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تكفل لمن خرج في سبيله -أي: للجهاد- لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسولي أن أدخله الجنة أو أرده إلى بيته بما نال من أجر أو غنيمة)، فهذا كله من ضمان الله عز وجل للعبد، فيشرع للإنسان إذا ذهب إلى طاعة أن يذهب من طريق وأن يرجع من طريق آخر.