[زكاة الفطر واشتقاقها ومشروعيتها]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: يقول المصنف رحمه الله: [باب زكاة الفطر].
تقدّم تعريف الزكاة، والفطر المراد به: الفطر من الصوم، وللعلماء رحمة الله عليهم في تسمية زكاة الفطر وجهان: الوجه الأول: أن الفطر هنا ضد الصوم، والمراد به الفطر من الصوم، أي: إكمال عدة رمضان، ودخول شهر شوال.
الوجه الثاني: أن المراد بالفطر من الفَطْر وهو الخلق، ومنه قوله تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:٣٠] أي: خلقهم وجبلهم عليها، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة)، وقوله سبحانه وتعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:١]، قال ابن عباس: (ما كنت أعلم معنى هذه الآية - {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ} [فاطر:١]- حتى اختصم إليَّ أعرابيان في بئرٍ، فقال أحدهما: هي بئري وأنا فطرتها، فعلمت أن معنى فطر: خلق وأوجد)، ففي المخلوق أوجد وفي الخالق خلق.
فقولهم: زكاة الفطر، أي من الخلقة، وبناءً على ذلك يعتبرونها من زكاة البدن.
والأقوى: أن المراد بالفطر: الفطر من رمضان؛ لرواية ابن عمر في الصحيح: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان)، فأضاف الفطر إلى رمضان فصار مختصاً به، وخرج معنى الفَطْر وهو الخلق.
هذه الزكاة شرعها الله عز وجل، فمن العلماء من يقول: هي مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع، ومنهم من يقول: هي مشروعة بالسنة والإجماع.
فأما الذين يقولون: إنها مشروعة بالكتاب، فيحتجون بقوله سبحانه وتعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:١٤ - ١٥]، قالوا: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:١٤] أي: أدى زكاة الفطر، (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) بالتكبير ليلة العيد؛ لأنه يشرع ذلك، (فَصَلَّى) أي: صلى صلاة عيد الفطر، فجعل الثلاثة الأمور مرتبة بعضها إثر بعض.
وقال بعض العلماء: إنها مشروعة بالسنة، وفيها حديثان: أولهما: حديث عبد الله بن عمر في الصحيحين: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان)، وثانيهما: حديث أبي سعيد رضي الله عنه وأرضاه في الصحيحين أيضاً، قال: (كنا نخرج صدقة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وكذلك حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عند الحاكم وغيره أنه قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر).
فهذه الأحاديث دلّت على مشروعية صدقة الفطر، ولذلك أجمع العلماء على مشروعيتها، والخلاف بينهم هل هي واجبة، أم مستحبة؟ فمنهم من يقول إنها مستحبة وليست بواجبة.
ومنهم من يقول: إنها واجبة.
فالذين يقولون بالوجوب هم جمهور العلماء رحمة الله عليهم من السلف والخلف، وذهب بعض العلماء -وهو قولٌ في مذهب الإمام مالك وشهّره بعض أصحابه من المتأخرين - إلى أنها ليست بواجبة.
والصحيح: أنها واجبة؛ لقول عبد الله بن عمر: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر)، والقاعدة: أن هذا اللفظ (فرض) يدل على الوجوب واللزوم؛ لأن الفريضة تعتبر لازمة لا خيار للمكلف في إسقاطها، فلا تعتبر في مقام المندوبات والمستحبات، وإنما هي في مقام الواجبات، ولذلك قال تعالى: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء:١١]، فالفرض يطلق بمعنى الواجب، ولا يطلق على المندوب والمستحب، فكان تعبير هذا الصحابي بقوله: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم) دالاً على الوجوب.
لكن الظاهرية رحمة الله عليهم ينازعون في مثل هذا الحديث؛ ويقولون: يحتمل أن الصحابي فهم ما ليس بفرضٍ فرضاً، فلا يرونه دليلاً على الفرضية.
وجمهور الأصوليين ومنهم الأئمة الأربعة على أن الصحابي إذا قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم) أنه يدل على الوجوب؛ لأن الصحابة أعرف بالخطاب وأعرف بلسان العرب ومدلولاته، وهم قد شهدوا مشاهد التنزيل، فهم أعرف بأساليب الكتاب والسنة، مع ما لهم من العلم والدراية بحال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ الأمر الذي يجعل ما ذكره الظاهرية -من احتمال فهم الصحابي ما ليس بفرض فرضاً- ضعيفاً، والقاعدة: (أن الاحتمالات الضعيفة لا ترد على النصوص، ولا تبطل أدلتها).
وعلى هذا فالصحيح أن قوله: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعتبر دالاً على الوجوب، وأن زكاة الفطر فريضة يثاب فاعلها ويعاقب تاركها، ويدل على هذا قوله بعد ذلك: (وأمر أن تُخرج قبل الصلاة)، كما في الصحيح، فقوله: (وأمر أن تخرج قبل الصلاة) يدل كذلك على وجوبها، وبناءً على ذلك تأكد القول بوجوب زكاة الفطر.