للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حكم المبتدأة]

المرأة التي جاءها دم الحيض لأول مرة لا نردها إلى عادتها؛ لأنها ليس لها عادة.

فإذاً: لا بد أن يكون لها حكم خاص، فما الحكم؟ قال بعض العلماء: كل امرأة مبتدأة فإننا نردها إلى عادة أمهاتها وأخواتها.

وقال بعض العلماء: كل امرأة مبتدأة فإننا نردها إلى عادة لِدَاتها أو أترابها -كما يعبر العلماء- واللدة والتريبة هي التي تكون في سن المرأة ومثلها، وقال بعض العلماء: المبتدأة تجلس أقلّ الحيض ونحكم بكونها حائضاً بذلك القدر الذي هو أقلّ الحيض، ثم تغتسل وتصوم وتصلي، حتى يعاودها الدم ثلاث مرات على وتيرة واحدة.

فعندنا ثلاثة أوجه: أما الوجه الذي يقول: نردها إلى أترابها -لداتها وأمثالها، أو أمهاتها وأخواتها- فهذا وجه معروف، أي: دليله واضح، وهو: (أن الشيء إذا شابه الشيء أخذ حكمه) أنا لا أقول إن هذه المبتدأة تجلس أقل الحيض، ولكن أقول: تنظر إلى أمثالها، فإن كان عادة أمها ستة أيام، فكل امرأة ابتدأها الحيض وعمرها تسع سنوات فإن عادتها ستة أيام حتى تثبت لها عادة جديدة.

فالقول الأول والقول الثاني -اللذات يعتبران والأمهات اللاتي هن القريبات- قولان مرجوحان هذا قول مرجوح عند أهل العلم رحمة الله عليهم؛ لأن الرجوع إلى ذات المرأة أو أصل الحيض أقوى من الرجوع إلى العرف، هذا بالنسبة للقول الأول والثاني، فيلغى النظر فيه.

يبقى عندنا القول الثالث، وهو معارض لقول قررناه، فإننا حينما تكلمنا على أقل الحيض قلنا: قال بعض العلماء: ليس لأقل الحيض حد، وهذا مذهب المالكية واختاره شيخ الإسلام، وقلنا: هو الراجح.

وقال بعض العلماء: أقلُّ الحيض يوم وليلة، وهو مذهب الشافعية والحنابلة.

وقال بعضهم: أقله ثلاثة أيام.

إذن: عندنا قول يقول: لا حد لأقله، فقليل الدم وكثيره حيض.

وقول يقول: اليوم والليلة، وما دونها ليس بحيض، وما أصابها وجاوزها حيض.

وقول يقول: الثلاثة الأيام حيض وما دونها استحاضة.

إذا نظرت إلى هذه الثلاثة المذاهب، فالحكم في مسألة المبتدأة مفرّع على هذه الثلاثة المذاهب، فينبغي أن تتنبه إلى أن من يقول: للحيض حد أقلي، سواء يوم وليلة كما يقول الشافعية والحنابلة، أو ثلاثة أيام كما يقول الحنفية، يقول: كل مبتدأة لا أحكم بكونها حائضاً إلا إذا جاوزت أقلّ الحيض، فالشافعية والحنابلة يقولون: كل امرأة بلغت تسع سنوات، وجاءها الدم -دم الحيض- فإنها تجلس يوماً وليلة، وإن استمر هذا الدم معها يوماً وليلة فهي حائض، وإن نقص عن اليوم والليلة فهي مستحاضة والدم دم فساد ومرض، هذا المذهب الأول، وهذا هو الذي درج عليه المصنف رحمة الله عليه.

والحنفية يقولون: المبتدأة التي يستمر معها الدم ثلاثة أيام، فحينئذٍ تكون حائضاً، وإن نقص عن الثلاثة الأيام تعتبر مستحاضة، والدم الذي معها دم فساد وعلة.

هذا بالنسبة لقضية أقل الحيض.

وعلى القول الذي رجحناه من أنه لا حد لأقله، فيقال: تبقى المرأة إذا بلغت تسع سنوات قدر ما أصابها من دم، فلو مكث معها ساعة فهي حائض، ولا تصوم ولا تصلي في الساعة هذه.

إذن: نحن رجحنا هذا المذهب الذي يقول: لا يعتد بأقل الحيض، فعلى هذا المذهب بمجرد ما يصيبها الدم بعد تسع سنوات فهو حيض إن كانت فيه أمارات الحيض، وقويت القرائن باعتباره حيضاً.

هذا بالنسبة لما رجحناه.

فلما قال المصنف رحمة الله عليه: للحيض حد أقلي، قال: ما نقص عن هذا الحد الأقلي فليس بحيض؛ فلابد أن يشترط في المبتدأة شرطاً ثالثاً؛ وهو: كونها تصيب الحد الأقلي أو أكثره.

فتبينت مذاهب العلماء رحمة الله عليهم في مسألة المرأة المبتدأة وصار عندنا اتجاهان: اتجاه يقول: هي حائض ولو كان دفعة واحدة، وهو الذي رجحناه.

المسلك الثاني يقول: تجلس أقلّ الحيض، إما يوم وليلة على قول، وإما ثلاثة أيام على القول الثاني.

فإذا استمر معها يوماً وليلة، أو استمر معها ثلاثة أيام على القول بالتثليث، فلا يخلو إما أن ينقطع لأقل الحيض، وإما أن ينقطع على أكثر الحيض، أو ينقطع بعد أكثر الحيض.

فيصير عندنا ثلاث حالات.

وعرفنا الحكم إذا ما انقطع لما دون أقل من اليوم والليلة أو أقل من الثلاث، وكلام العلماء فيه، فلو جاءتك امرأة وقالت: إنه أصابها الدم وعمرها تسع سنوات، فما الحكم؟ تقول: على القول الراجح، هذا الدم الذي أصابك دم حيض؛ لأنه في زمان الإمكان، فتمتنعين عن الصوم وعن الصلاة على القدر الذي يجري معك فيه الدم، فلو استمر معها ثلاثة أيام أو أربعة أيام، فعلى هذا المذهب لا تصوم ولا تصلي في هذه الأيام وهي حائض، وهذا المذهب هو الراجح كما ذكرناه، لكن الإشكال أين؟ الإشكال على المذهب الثاني الذي يرى اليوم والليلة، أو الذي يرى الثلاثة الأيام، إذا انقطع لأقل من خمسة عشر يوماً أو الخمسة عشر يوماً، فيقولون: نعتبر اليوم والليلة -أو الثلاثة أيام- حيضاً، والزائد استحاضة، ثم نترك المرأة ثلاثة أشهر، فإذا انقطع في الثلاثة الأشهر بعدد واحد بمعنى: جاءها في الشهر الأول خمسة أيام وانقطع، وجاء في الشهر الثاني خمسة أيام وانقطع، وجاء في الشهر الثالث خمسة أيام وانقطع، الحكم؟ قالوا: تثبت عادتها خمسة أيام، ثم تطالب بقضاء الأربعة الأيام من الشهر الأول، ومن الشهر الثاني، ومن الشهر الثالث؛ لأننا تيقنا أن الأربعة الباقية حيض وليست باستحاضة.

فصاحب القول الذي يقول: للحيض عندي حد أقلي، يقول: إن انقطع لأقل من أكثر الحيض بمعنى: انقطع لعشرة أيام، أو ستة أيام، أو خمسة أيام، فإنها تمسك عن الصلاة يوماً وليلة؛ لأنه هو اليقين بأنه حيض، ثم بعد اليوم والليلة يقولون: تغتسل وتصوم وتصلي، فإذا استمر معها خمسة أيام في الشهر الأول والثاني والثالث، فما الحكم؟ يقولون لها: اجلسي يوماً وليلة لا تصومين ولا تصلين، فإذا انتهى اليوم والليلة فاغتسلي ولو جرى معك الدم، ثم تصومين وتصلين، فإن عاودك في الشهر الثاني فالحكم كذلك، وإن عاودك في الشهر الثالث بنفس الوتيرة ثبتت العادة، وتمكثين الخمسة أيام كاملة، ثم تطالبين بقضاء ما مضى، هذا على مذهب الشافعية والحنابلة، واختاره المصنف، لكن الصحيح: فيما إذا انقطع دون أكثر الحيض -أنها تجلس القدر الذي تجلسه، فإذا انقطع عن ستة أيام فهي حائض بالست، وإن انقطع عن سبعة أيام فهي حائض بالسبع وهكذا، فتجلس الأمد الذي يجري معها فيه الدم، والمذهب الثاني الذي فصلنا فيه؛ مذهب مرجوح، والذي ذكره المصنف مذهب مرجوح.

فعلى قول المصنف لو استمر معها الدم وجاوز أكثر الحيض فهو دم فساد وعلة، فتبقى على اليقين اليوم والليلة أنها حائض والزائد استحاضة، والشهر الثاني كذلك، والشهر الثالث كذلك، حتى تثبت لها عادة بوتيرة معينة، أو تميز دمها، وسنبين كيف يكون التمييز.

فبالنسبة للمبتدأة، عندنا فيها مذاهب، والجميع متفقون على أنه إذا جرى معها الدم ثلاثة أيام فبالإجماع أنها تعتبر حائضاً، ولكن الخلاف إذا جرى لأقل؛ عند من يضع للحيض حداً أقلياً، فإن جرى أقل من يوم وليلة فالمالكية وحدهم يعتبرونه حيضاً، وإن جرى يوماً وليلة فالجمهور -المالكية والشافعية والحنابلة- يعتبرونه حيضاً، والحنفية لا يعتبرونه حيضاً حتى يبلغ ثلاثة أيام، هذا بالنسبة لمسألة المبتدأة.

فيشترط فيها أول شيء: أن يكون سنها سن حيض.

وثانياً: أن تجاوز أقلّ الحيض عند من يقول أن للحيض حداً أقلياً.

قال المصنف رحمه الله: (والمبتدأة تجلس أقله ثم تغتسل وتصلي).

(والمبتدأة تجلس أقله) أقله: الضمير عائد إلى الحيض، وأقله: قال: أقله يوم وليلة على ما اختاره المصنف رحمه الله.

(ثم تغتسل وتصلي) يعني: نحكم بكونها حائضاً، لكن بشرط أن تجاوز أقلّ الحيض على مذهب المصنف.

قال رحمه الله: [فإن انقطع لأكثره فما دون اغتسلت عند انقطاعه].

هذه مسألة ثانية، نحن قررنا أن ما دون أكثر الحيض يُعتبر فيه اليوم والليلة، لكن هناك أمر آخر، قالوا: إذا جرى معها الدم لأول مرة واستمر يوماً وليلة حكمنا بكونها حائضاً، ثم تغتسل بعد اليوم والليلة وتصوم وتصلي، فإن انقطع لأقل من أكثر الحيض -مثلاً- خمسة أيام، سبعة أيام، ثمانية أيام، تسعة أيام، عشرة أيام، أحد عشر يوماً، اثني عشر يوماً، ثلاثة عشر يوماً، أربعة عشر يوماً، لكن ما بلغ أكثر الحيض، فيقولون: عند انقطاعه لأقل من خمسة عشر تغتسل غسلاً ثانياً؛ لاحتمال أن يكون الكل حيض؛ لأنها إلى الآن ما ثبتت لها عادة، فاحتاطوا باحتياطين: أولاً قالوا: نرجع إلى اليقين من أنها حائض يوماً وليلة، فنأمرها بالاغتسال بعد اليوم والليلة؛ لأنها بيقين حائض، ثانياً: قالوا: نأمرها بالاغتسال إن انقطع الدم لأقل الحيض؛ لأنه قد تثبت لها عادة بهذا الأقلي، فإذا انقطع بعد خمسة أيام، ما الحكم؟ تقول: تغتسل غسلاً ثانياً، ثم إذا جاء الشهر الثاني مدة خمسة أيام، والشهر الثالث مدة خمسة أيام، علمنا أن هذا الأمد هو أمد الحيض وهو عادتها.

<<  <  ج:
ص:  >  >>