[لزوم تميز أهل الذمة عن المسلمين]
قال رحمه الله: [ويلزمهم التَّميُّز عن المسلمين] أي: يلزم أهل الذمة أن يتميزوا عن المسلمين، وهذه الأمور شرع المصنف في بيانها، ووردت في كتاب أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين المهديين -رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين- عمر بن الخطاب، وهذا الكتاب وقع في عدة حوادث في عصره رضي الله عنه وأرضاه، فقد كتب عبد الرحمن بن غنم كتابه في الصلح بينه وبين أهل الذمة، وكذلك خالد بن الوليد رضي الله عنه مع أهل الحيرة، وغيرهم من أمراء الأجناد، كتبوا كتباً أقرهم عليها عمر رضي الله عنه وأرضاه، فصارت أصلاً في معاملة أهل الذمة.
وهذه الكتب فيها شروط بين المسلمين وبين أهل الذمة.
والقاعدة التي ينبغي وضعها في الحسبان: أنه يتفق أهل العقول المستقيمة على أنه لا يمكن أن يُقَر من يخالفك إذا أعطيته أماناً وعهداً لكي يفعل ما يشاء؛ لأنه لم يحدث بينك وبينه ما حدث من عداوة وشحناء إلا بسبب ما بينك وبينه من الخلاف، فإذا رضي العدو لعدوه أن يبقى عنده، فهذا خلاف الأصل، فإن أراد أن يبقيه عنده على هواه، وعلى فكره وعلى عداوته، كان ذلك أشبه بالخَرَق والجنون، إذ ليس هناك إنسان له عقل وحكمة يأتي بمن يخالفه ويعاديه، ويتركه في حضنه وحجره، يدفع عنه ويقوم بحقوقه، مع أنه يدعو إلى خلافه وإلى أذيته والإضرار بكرامته ودينه.
ومن هنا فإن أهل الكتاب في الأصل أعداء لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك لا يمكن أن يقرهم الإسلام على ما فيه ضرر بالإسلام أو بالمسلمين، والعقد الذي بينهم وبين المسلمين إنما يقوم على أن يحفظوا لنا حقوقاً، ونحفظ لهم حقوقاً، وتكون هذه بمثابة الذمة بيننا وبينهم، فإن أخلوا بها، فهناك ما يوجب انتقاض عهدهم، وهناك ما فيه تفصيل وخلاف بين أهل العلم رحمهم الله.
وهذا الأمر واقع إلى الآن، فإن الأمم والشرائع والدول كلها ترى أن من حقها أن من وطئ أرضها أو نزل على محلها، أن تلزمه بما ترى، وأن تقيده بما تحس أن مصالحها مرتبطة به، وأن درء المفسدة عنها متوقف عليه، فتلزم كل من أتى إليها بذلك، فليس من الغريب أن نقول هذا الكلام، حتى نرد شبهة من يطعن في المسلمين حين ترد هذه الكتب، فيقال: انظروا كيف يتشدد المسلمون؟! حتى نجد بعض كتاب المسلمين يتسامح في هذه الشروط، بل تجد بعض كتب الشروط العمرية يعلق عليها مَن يشكِّك في صحة هذه الكتب، ويقول: إنها لا تتفق مع سماحة الإسلام، وكأنه يريد أن يجلس أهل الذمة مع المسلمين، لا فرق بينهم وبين المسلمين، فنصير بين أمرين: - إفراط.
- وتفريط والقسط والعدل لا بد منه، فأهل الذمة نحفظ حقوقهم، ونحس أن لهم علينا حقاً علينا أن نحفظه، وذمة بيننا وبينهم لا ينبغي أن تُخفَر؛ لكن كذلك ينبغي أن يشعروا ما هو الإسلام، وأن يشعروا من هم المسلمون، وأن يكونوا على ذلة وصغار، وهذا هو الذي عناه الله بقوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:٢٩]، فلم يقل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة:٢٩] وسكت، فليس الإسلام بجائع حتى يُطْعَم، ولا بفقير حتى يستَغْنِي بهذا المال، فهو في عزة من الله وكرامة من الله وغنى منه سبحانه وتعالى، وإنما فُرِضت هذه الأمور حتى يكونوا تحت طواعية الإسلام وتحت قهره.
فإذاً: لا بد من الوسطية، فنلزمهم بحفظ حقوقٍ يشعرون معها بذلتهم وعزة المسلمين، ويشعرون معها بمهانتهم وكرامة الإسلام، ترغيباً لهم في دين الله، وإشعاراً لهم بكلمة الله، فيصير أهل الأرض حينئذٍ يدينون لله، وتحت كلمة الله من هذا الوجه، أما أن يبقى الذمي في بلاد المسلمين يفعل ما يشاء، ويفعل ما يريد، فهذا أبداً لا يمكن أن يكون، فأهل العقول في حياتهم وفي ظروفهم وفي معايشهم لا يمكن أن يتركوا لإنسان يعادي دينهم أو نحلتهم أو فكرتهم أن يفعل ما يشاء.
ومن هنا: إذا بقي الكفار تحت سطوة المسلمين، فينبغي أن يُحفظ الإسلام من كيدهم ومكرهم وأذيتهم، وهذا يستلزم أمناً فكرياً وأمناً ذاتياً، والأمن الفكري يستلزم أن توضع شروط وضوابط يُمنع فيها أهل الكتاب من فتنة المسلمين عن دينهم، ويُمنع فيها أهل الكتاب من إحداث أمور تدعو المسلمين إلى متابعتهم أو الرضا بشريعتهم، هذا بالنسبة لما يكون من جهة الفكر.
أما من جهة التصرفات والأفعال فهناك أمور سُنَّتْ سُنَّةً، وفي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبقيت في عهود الإسلام والمسلمين أُشْعِر فيها أهل الذمة بما ينبغي أن يُشْعَروا به، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الأصل في قوله: (لا تبدءوا أهل الكتاب بالسلام) فنهى عليه الصلاة والسلام عن بداءتهم بالسلام، إشعاراً لهم بالصغار والذلة بين المسلمين، وحتى يتميز الفريقان، إذا لو نشأ الكفار بين المسلمين دون هذه الضوابط فستنشأ أجيال المسلمين ترى أنهم مع المسلمين كالشيء الواحد، وحينئذ لا يؤمَن أن يختلطوا، ولا يؤمَن -نسأل الله السلامة والعافية- أن ينجرف بعض المسلمين إلى دينهم، ويحصل خلاف مقصود الشرع، إذ أن مقصود الشرع من عيشهم بين المسلمين أن يأتي اليوم الذي يرون فيه سماحةَ الإسلام ومِنَّتَه وفضلَه ويدَه، فيدخلون فيه، ويكون سبباً في نجاتهم في الآخرة.
يقول رحمه الله: (ويلزمهم التميز عن المسلمين) هناك أمور فكرية سينبه عليها المصنف مثل: ألا يظهروا كتبهم، سواءً بالقراءة أو بغيرها، فلا يقرءون كتبهم جهرةً، وتُسمع قراءتهم بين المسلمين، ولا يقرءون بها في مجامع المسلمين، إنما يقرءون بها في كنائسهم وفي بِيَعهم وفي صلواتهم، ولذلك في قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} [الحج:٤٠]، قال بعض المفسرين: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ} [الحج:٤٠] لولا دفع الله بالمؤمنين، ومن هنا أقر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومن بعده من الخلفاء الراشدين كنائس أهل الذمة في بلاد المسلمين بضوابط معينة، وأصول معينة؛ لكي يقرءوا فيها، ويقوموا فيها بأذكارهم وصلواتهم، داخل هذه الصلوات والبِيَع والكنائس، ولا يظهرون شيئاً من دينهم، فهذا من جهة الفكر؛ لئلا يتأثر المسلمون.
- كذلك أيضاً لا يُظهِرون شيئاً من عقائدهم، فلا يظهرون شركياتهم كقولهم: إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ، وقولهم: إن المسيح ابن الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً! فلا يُظهِرون شيئاً من شركهم، حتى يأمَن المسلمون في عقيدتهم، فإنه لا بد من الأمن في العقيدة.
- كذلك أيضاً لا يُظهِرون شيئاً من منكراتهم -كما ذكرنا- من شرب الخمر، وأكل الخنزير وإظهار الصليب، ونحو ذلك من الأمور التي فيها دلائل يتميزون بها بدينهم.
- كذلك أيضاً لا تكون لهم صولة وعزة في بلاد المسلمين؛ لأن الله نفى ذلك، فقال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة:٢٩] ثم وصفهم بحالة واحدة، فقال: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:٢٩] فمعناه: أن عيشهم ووجودهم بين المسلمين موصوف بالصغار، وهذا يستلزم ألاَّ يعلو بناؤهم على بناء المسلمين، وألاَّ تكون لهم صدارة المجالس، وغير ذلك من الأمور التي وردت في الشروط العمرية، وكذلك في كتاب خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه لأهل الحيرة، وفي غيرها من العهود التي عقدت بين المسلمين وبين أهل الذمة.
وقوله: (ويلزمهم التميز عن المسلمين) أولاً: في أبدانهم.
ثانياً: في ثيابهم.
ثالثاً: في بيوتهم، ومساكنهم.
رابعاً: في مراكبهم.