[حكم الصلاة خلف الكافر والفاسق]
قال رحمه الله تعالى: [ولا تصح خلف فاسق ككافر].
بعد أن بين لنا رحمه الله من الذي يُقدم للإمامة ومراتب الأئمة والمفاضلة بينهم شرع رحمه الله في حكم إمامة من لا تصح الصلاة وراءه، فقال رحمه الله: [ولا تصح خلف فاسق ككافر].
والفاسق: مأخوذٌ من قولهم: فسقت الرُّطبة، أو الثمرة عن قِشرها إذا خرجت، فأصل الفِسق في لغة العرب: الخروج، وسُمِّي الفاسق فاسقاً لأنه خارج عن طاعة الله -والعياذ بالله-، وذلك بعصيانه والتمرد عليه سبحانه وتعالى، والفسق يكون على حالتين: الأولى: أن يصل بالإنسان إلى الكفر والعياذ بالله، فإن الكافر يُوصف بكونه فاسقاً لأنه على أعلى درجات الفسق والخروج عن طاعة الله عز وجل.
الثانية: أن يكون دون حد الكفر، بمعنى أن فِسقه لا يُخرجه من الإسلام، ولذلك تجد في القرآن وصف الكفار بالفسق؛ لأنهم خرجوا عن طاعة الله عز وجل على أكمل ما يكون عليه الخروج.
فأما إذا كان الإمام كافراً فالصلاة لا تصح وراءه بإجماع العلماء؛ لأن إمامة الكافر لا تجوز، ولا يجوز تقديمه، ومذهب طائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم أنّهم يُلزمون بإعادة الصلاة فلو أن كافراً قُدِّم للصلاة بالناس ولم يعلموا إلا بعد خمس سنوات فإنهم يُلزموا بإعادتها خمس سنوات، ووقع هذا في بعض الأماكن، حيث قدّموا بعض الكفار فصلّوا وراءه أكثر من خمس سنوات، ثم تبين أنه كافر فأعادوا صلاتهم خمس سنوات، وهذا يكون بالترتيب في الفروض على الصفة التي ذكرناها في قضاء الفوائت.
فلا تجوز إمامة الكافر، ولا يجوز تقديمه، ولا تجوز الصلاة وراءه.
وبناءً على ذلك قال رحمه الله: [ولا تصح خلف فاسق ككافر].
والفاسق الذي يرتكب الكبائر أو يصر على الصغائر ضد العدل، فالعدل: الذي لا يرتكب الكبيرة ولا يصر على الصغيرة.
كما قيل: العدل من يجتنب الكبائر ويتقي في الأغلب الصغائر فالذي يرتكب الكبائر ولو كبيرة واحدة، أو يصر على الصغائر ويداوم عليها يُوصف بكونه فاسقاً، فلا تصح الصلاة وراءه، واختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، فلو أن إنساناً فاسقاً تقدم وصلى بالناس، فهل صلاتهم وراءه صحيحة أو ليست بصحيحة؟ فللعلماء قولان فيها: القول الأول: الصلاة وراء الفاسق صحيحة، ما دام أن فِسقه لم يخرجه عن الإسلام، وبه قال جمهور العلماء، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية وبعض أصحاب الإمام أحمد رحمة الله على الجميع.
القول الثاني: الصلاة وراء الفاسق باطلة لا تصح إمامته، ولا تصح الصلاة وراءه، وهو مذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه.
واستدل الذين قالوا بصحة الصلاة وراء الفاسق بأدلة، أولها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم)، ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإن أخطأوا فلكم -أي: لكم صلاتكم كاملة- وعليهم): أي عليهم خطؤهم.
فبين أنه لا علاقة للإنسان بفسق الإمام أو صلاحه، فالعبرة بصلاتك، فقال: (يصلون لكم، فإن أصابوا -أي: إن كانوا صالحين- فلكم ولهم -أي: الصلاة على ما هي عليه- وإن أخطئوا -أي: كانوا على خطأ- فلكم -أي: صلاتكم لكم وعليهم خطؤهم-.
وهذا الحديث نصٌ واضح في صحة إمامة الفاسق.
الدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا ذرٍ رضي الله عنه أن يصلي مع الجماعة، وقال: (صلها معهم فإنها لك نافلة)، كما في الصحيح، ووجه الدلالة أنه صحّح صلاته وراء الفسّاق، وأثبت كونها نافلة؛ إذ لو كانت باطلة لم تكن نافلة ولا فريضة.
الدليل الثالث: هدي السلف وإجماع السلف الصالح رحمةُ الله عليهم، فإن ابن عمر وأنس بن مالك رضي الله عن الجميع صليا وراء الحجاج، ومع ذلك لم يحكم أحدهما ببطلان الصلاة وراءه، ولم ينكر عليهما أحد، فدل على أن الصلاة وراء الفاسق صحيحة.
الدليل الرابع من العقل: قالوا: الفاسق صلاته في نفسه صحيحة، أي: مجزئة لنفسه، فمن باب أولى أن تُجزئ إمامته لغيره.
وتوضيح ذلك أنهم قالوا للحنابلة: الفاسق لو صلى الظهر وصلى العصر فهل تطالبونه بإعادة الظهر والعصر؟ قالوا: لا.
قالوا: ما دام أن صلاته صحيحة في حق نفسه فمن باب أولى أن تصح في حق غيره.
أما بالنسبة لمن قال بعدم صحة الصلاة وراء الفاسق ففي الحقيقة ليس لهم دليل واضح صحيح صريح يدل على بطلان الصلاة وراء الفاسق.
ولكن لهم أُصول، منها: أنه إذا تقدم الفاسق وأمّ بالناس فإنه لا يُؤمن أن يحملهم على المحرمات، أو يدعوهم إلى المنكرات، ثم إن هذا فيه انتقاصٌ من مكانة الإمامة، وامتهانٌ لهذه الإمامة التي تقوم عليها أعظم شعائر الدين بعد الشهادتين وهي الصلاة، ولهم في ذلك اجتهادات، لكن الصحيح ما ذهب إليه الجمهور وهو أن الصلاة وراء الفاسق صحيحة، وأن الفاسق له صلاته، فكما أن صلاته صحيحة في حق نفسه فمن باب أولى أن تصح في حق غيره.
فقوله رحمه الله: [ولا خلف فاسق ككافر] جمع به رحمه الله بين هذه المسائل: أولاً: عدم صحة الصلاة وراء الفاسق، وهذا مذهب مرجوح.
ثانياً: عدم صحة الصلاة وراء الكافر، وهذا يكاد يكون إجماعاً.
ثالثاً: الدليل في قوله: [خلف فاسق ككافر] قياس.