[خيار الفسخ للمرأة في حال إعسار الزوج بالنفقة]
فإذا أعسر ولم يقم بواجب النفقة على الزوجة فإنه اختلف العلماء رحمهم الله فيه، من أهل العلم من يقول: الإعسار في النفقات يوجب الخيار للزوجات، فالزوجة إذا حبسها زوجها ولم ينفق عليها ولو كان فقيراً -أي: لم ينفق عليها لعذر - فإن من حقها أن تطلب فسخ النكاح، ومعنى الخيار: أنها تخير بين أن تستمر وتصبر حتى يأتي الله بالفرج، وبين أن تفارق الزوج، وحينئذٍ يفسخ النكاح بينهما.
ومن أهل العلم من قال: لا خيار في الإعسار بالنفقة.
والذين قالوا: إن الخيار ثابتٌ في الإعسار في النفقة قالوا: إن أصول الشريعة دالة على دفع الضرر، ولا يمكن للحياة الزوجية أن تكون حياة زوجية والمرأة معذبة في عصمة الرجل، ولا يمكن أن تقوم المرأة بحقوق الرجل والرجل لا يقوم بحقوقها في النفقات، وهذا تكليف بما لا يطاق؛ لما فيه من الحرج والمشقة، ومعلوم أن المرأة إذا أعسرت ولم تجد طعاماً -خاصة إذا كان عندها أولاد- ربما تعرضت للحرام لأجلهم، وتعرضت للضرر في دينها وفي عرضها، ومن هنا قالوا: إن الإعسار يوجب ثبوت الخيار.
وقالوا: إذا كانت الشريعة أعطت المرأة حق الخيار في عيوبٍ تكون في الزوج، مثل عيوب الجماع إذا طرأت، فمن باب أولى في عيوب النفقة؛ لأن النفقة أعظم ضرراً وأشد خطراً من عيوب النكاح، فمن هنا قالوا: يثبت الخيار للمرأة، ونقول لها إذا أعسر زوجها ولم ينفق عليها: إن شئت صبرت وإن شئت طلبت فسخ النكاح، فإن اختارت فسخ النكاح ورفعت الأمر للقاضي فإنه يوقف الزوج ويقول له: يا هذا، هل تستطيع أن تنفق على زوجك؟ فإن قال: لا أستطيع، ثبت عند القاضي إعساره وعدم قيامه بحق نفقة زوجته، فحينئذٍ يحكم بفسخ النكاح بينهما.
والذين يقولون: إن الخيار لا يثبت بالإعسار يحتجون بالأحاديث الصحيحة التي منها: ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم من شدة الحاجة والفاقة، حتى أن فاطمة رضي الله عنها زوجة علي وبنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءت تشتكي إلى رسول الله من شدة ما تجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمهات المؤمنين يمر عليه الشهر والشهران والثلاثة وما يوقد في بيته نار.
قالوا: فهذا يدل على أن الإعسار في النفقة لا يوجب الخيار.
والحقيقة أن هذا الاستدلال محل نظر؛ لأن فقه المسألة: إذا لم تصبر المرأة، وأمهات المؤمنين كنّ صابرات راضيات؛ لذلك خيرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الدنيا وبين الآخرة، فاخترن ما عند الله سبحانه وتعالى والرضا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالحقيقة أن الاستدلال بهذه النصوص محل نظر؛ لأن الزوجات راضيات، ومحل الكلام إذا لم ترضَ الزوجة وقالت: أنا لا أستطيع، وهذا شيء أحمل فيه ما لا أطيق؛ فأصول الشريعة في الدلالة تقتضي ثبوت هذا النوع من الخيار، وهذا هو القول الصحيح إن شاء الله تعالى: أن الزوج إذا افتقر واشتد أمره حتى حبس عن المرأة نفقتها؛ فإننا نقول له: إما أن تنفق عليها بالمعروف؛ لأن الله أمرك بالعشرة بالمعروف، وإما أن تسرحها بإحسان، ولا نستطيع أن نقول للمرأة إنها ملزمة بشرع الله عز وجل أن تبقى على هذه الحال التي لا تجد فيها قوتها ولا قوت أولادها؛ فهذا لا شك أنه مخالف لأصول الشريعة، وبناءً على ذلك: ترجح القول القائل بأن الخيار يثبت للزوجة إذا أعسر الزوج بالنفقات.
وأما إذا صبرت المرأة فلا شك أن هذا أفضل وأكمل، ما لم تخش على دينها، أو على عرضها، فإذا خافت الفتنة ووجدت أن هذا ليس بيدها فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لكن من حيث الأصل صبرها وتحملها واحتسابها للأجر عند ربها لا شك أنه أعظم، والله تعالى يجعل مع العسر يسرا، فمن هنا (لن يغلب عسرٌ يسرين) لأن الله يقول: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:٥ - ٦].
وشهد الله جل وعلا أنه لا يكون عسر إلا معه يسر، وكرر إثبات هذا اليسر مرتين، فصار العسر في الآية الأولى والثانية واحداً، واليسر الذي شهد الله به مرتين، فمن هنا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يغلب عسرٌ يسرين) لأن الله شهد باليسر، فإذا صبرت المرأة واحتسبت فالحمد لله، وأما إذا طالبت بحقها فلها حق الفسخ.