للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حكم من أراد المعصية في مكة]

السؤال

ما الدليل على أن من نوى المعصية في مكة يأثم وإن لم يصنعها؟ وهل السيئة في مكة بعشر أمثالها مع أن الله تعالى يقول: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام:١٦٠]؟

الجواب

أما القول بأن السيئة في مكة بعشرة أمثالها فهذا قولٌ باطل، ولم يقل به أحد من أهل العلم رحمهم الله؛ لأن النصوص واضحة في الكتاب والسنة أن من فعل السيئة فلا يجزى إلا مثلها، كما قال تعالى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام:١٦٠]، وفي السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (من جاء بالحسنة؛ فله عشر أمثالها وأزيد، ومن جاء بالسيئة؛ فلا أجزيه إلا مثلها أو أعفو)، فالله سبحانه وتعالى لا يجزي بالسيئة إلا سيئة أو يعفو سبحانه.

لكن هناك مسألة مهمة، وهي دقيقة وترفع الإشكال في هذا الأمر، يقول بعض العلماء: يتضاعف الذنب في مكة لعظم المكان، وهذه مسألة ثانية، متعلقة بحرمة المكان وحرمة الزمان، والأصل ألا يتضاعف الذنب نفسه، وإنما يكون أصل العقوبة من الشرع، وأصل الاسم المقدر لهذه الجريمة وهذا الذنب عظيمٌ بالنسبة لغيره، فمثلاً لو كانت السيئة بالسب خارج مكة فيها ألف سيئة، ففي مكة فيها عشرة آلاف سيئة، وليست مضاعفة للسيئة نفسها ولكن الشرع جعلها عشرة آلاف لحرمة هذا المكان، وحينئذٍ لا تكون مضاعفة إنما يكون لأصل الوضع في الحكم، وأصل الوضع لا يقتضي التضعيف، وحينئذٍ لا تتعارض النصوص، أما ما ورد من النصوص أن السيئات يجزى صاحبها بمثلها، فإن السيئة بمكة ليست كالسيئة في خارج مكة، فللسيئة بمكة مثليٌ يناسبها، وللسيئة خارج مكة مثليٌ يناسبها، فإن وقع سبٌ خارج مكة وكان بألف سيئة، فإنه داخل مكة يكون بعشرة آلاف سيئة، وكثير من النصوص يظن فيها التعارض، ولكن يفرق بينها بأصل الوضع، ومن هنا يخرج طالب العلم من الإشكالات، وقد اختلف في سبب خروج ابن عباس رضي الله عنهما إلى الطائف، والصحيح ما وقع بينه وبين ابن الزبير من فتنة، ودخول الحساد بينهما، فاضطر ابن عباس رضي الله عنهما للخروج.

وهناك قول ثانٍ لسبب خروجه، وهو أنه لما خرج قال: لم تبق لي إلا حسنات أخشى أن تذهبها حرمة هذه البنية، يعني الكعبة، وهذا يدل على عظم تعظيم السلف رحمهم الله لأمر مكة، فعلى كل حال لا تضاعف السيئة بمجردها.

بقيت مسألة نية الذنب، والنية تختلف، وما يقع في القلب يختلف، فأول شيء يقع في القلب يسمى الهاجس، ثم بعد ذلك الخاطر، ثم بعد ذلك حديث النفس، ثم بعد ذلك الهم، ثم بعد ذلك العزم، فهذه خمس مراتب: أولها الهاجس: وهو العارض على النفس، بعض العلماء يقول: ما يلقى في النفس، فبمجرد ما يلقى الشيء بالنفس يقال له: هاجس، فإن مر في داخل النفس يعني عقله القلب وفهمه وألم به ما يلقى، وجرى في النفس ودخل إلى النفس فخاطر.

وإن بدأ يتحدث: هل يقبله أو لا يقبله؟ يرده؟ يقدم عليه؟ يدبر عنه؟ فحديث نفس.

فإن أخذ هذا الحديث يستحكم بين أن يقدم أو يحجم؟ يقبل أو يدبر؟ يفعل أو لا يفعل؟ وتوجهت النفس لترجيح الفعل أو عدم الفعل؛ فقد اهتم به فيسمى الهم.

فإذا اهتم به واعتنى به وأراد أن ينفذه فيسمى العزم.

فهذه خمس مراتب، وبالنسبة للخاطر والهاجس والهم وحديث النفس فكلها معفو عنها، والنص صحيح صريح في أنه لا يؤاخذ العبد عليها، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله عفا لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل)، فجعل حديث النفس لا تأثير له، ولو أن رجلاً حدث نفسه بمعصية فلا نحكم بمؤاخذته به؛ لأنه معفوٌ عن حديث النفس، فإن عزم وتوجه للشيء فهذا فيه إشكال عند العلماء رحمهم الله؛ لأنه إذا عزم وتوجه إليه واهتم به وعزم عليه؛ فهذا عملٌ قلبي، ولذلك قد تتوجه الإرادة إلى الشيء، وتعزم عليه وتقصده لكن لا يستطيع أن يفعله؛ لأن الظروف لم تيسر له فعله، فالعزم والتوجه الصادق فيه كلام للمحققين، فبعض العلماء يقول: حديث النفس الذي استحكم في النفس، وتوجه إليه القلب وأراده، واعتبره والتزمه يؤاخذ به، ولا يكون عازماً إلا إذا اعتنقه وعزم عليه، ما يقال: عزم على الشيء؛ إلا إذا كان قد استقر في مكنون قلبه على وجهٍ لا تردد فيه، فإن عزم عليه وتوجهت إرادته إلى الشيء قصداً، فيؤاخذ به وذكر هذا الإمام القاضي عياض في شرحه لصحيح مسلم وقال: إن المحققين من أهل العلم على هذا، واحتجوا بأدلة منها: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [النور:١٩] فهم يحبون أن تشيع الفاحشة لكن ما فعلوها.

وقال تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:١٢]، فخطرت الظنون وهجست وتحدثت فيها النفوس لما توجه إلى سوء الظن بأخيه المسلم، وجزم بهذا التوجه: أن أخاه كذاب أو غشاش أو منافق، فلما توجه قلبه إلى هذا الظن وأراده ورضيه؛ قال تعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:١٢]، والظن محله القلب، فهو لم يتحدث به ولم يتكلم به، ومن هنا عُلم وجه قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله عفا لأمتي عما حدثت به أنفسها)، فالحديث ليس فيه الشيء الذي تحدث به النفس.

ومع قولهم أن هناك نصوصاً أخرى تدل على أن أعمال القلوب المتوجهة معتبرة، ويؤاخذ بها العبد، إلا أن هناك مسائل دلت النصوص على أنه لا بد فيها من الظاهر، فلا يكفي مجرد التوجه ولو حصلت العزيمة، يقول تعالى عن الحرم: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:٢٥] أي: بالإرادة، وصدق التوجه، كأن يريد الزنا، أو شرب الخمر، أو فعل المحرمات، أو أذية الجار، ويتوجه إلى ذلك؛ لأنه لا يكون مريداً له إلا إذا عزم عليه، وصدق في توجهه إليه، ومن هنا وقع في الذي يعتبر من أعمال القلوب المؤاخذ عليها.

لكن هناك فرق -وهي نقطة دقيقة جداً- بين أن نقول: إنه مؤاخذ عليه بعملٍ قلبي، وبين أن نقول: إنه مؤاخذ على العمل بذاته، فمثلاً من حدثته نفسه أن يزني، وتوجه إلى الزنا وعزم عليه، أو حدثته نفسه بجرمٍ في مكة، وتوجه في نفسه إليه؛ فهذا خطأ قلبي، ويصبح مسيئاً بقلبه، وتلتصق به الجناية بعمل القلب، كما قال صلى الله عليه وسلم: (العينان تزنيان)، والأصل أن الجريمة ما وقعت لكنه أسند الرضا بالجريمة وفعل وعمل شيئاً مسنداً إلى العين، مثلما أن العين إذا نظرت صارت زانية، كذلك القلب إذا حدث ورضي هذا الفعل كما قال: (والقلب يهوى ويتمنى) فشركه في الحكم، فإذا حصل هذا من القلب، فهو عملٌ قلبي، والعقوبة نسبية لهذا العمل القلبي، وحينئذٍ تكون المؤاخذة على الظاهر ليست كالمؤاخذة على الباطن، والإثم على الظاهر ليس كالإثم على الباطن، وهذا الذي جعل بعض العلماء يقول: من جامع زوجته وهو يتخيل أجنبية أثم، ومن شرب عصيراً مباحاً حلالاً وهو يتخيل كأنه يشرب الخمر أثم، أي: أثم بالعمل القلبي؛ لأنه يريد هذا ويحبه كما قال صلى الله عليه وسلم: (والآخر يقول: لو أن عندي مثل مال فلان؛ لعملت مثل عمله) فجعل التمني كالفعل، فهذا كله يدل على أن التوجه للمعاصي وصدق العزيمة إليها؛ عملٌ قلبي يؤاخذ به العبد، لكنها مؤاخذة نسبية، وحينئذٍ لا تعارض بين النصوص ولا تعارض بين مسألة العمل القلبي والظاهر.

ومما أنصح به طالب العلم المتمكن أن يرجع إلى الموافقات للإمام الشاطبي في مبحثه النفيس في المقاصد، وذلك أنه قسم فاعل الفعل وتاركه إلى قسمين: إما أن يكون موافقاً أو مخالفاً، فإن كان موافقاً أو مخالفاً فإما أن يوافق ظاهراً وباطناً، أو يخالف ظاهراً وباطناً، وإما أن يوافق ظاهراً ويخالف باطناً، وإما أن يخالف ظاهراً ويوافق باطناً، وهذا كله فيه تفصيل، وكلام كثير للعلماء رحمهم الله، فمسألتنا هذا من حصول المخالفة الباطنية دون وقوع المخالفة الظاهرية، وعلى كل حال فالأصل يقتضي أننا لا نؤاخذه المؤاخذة التامة الكاملة إلا باجتماع الظاهر والباطن فيما اشترط الشرع فيه الظاهر والباطن، وقولك: إن النية في مكة مؤثرة ليس على إطلاقه، والله تعالى أعلم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>