[حمل الرقيق على الدابة في السفر]
قال رحمه الله: [ويركبه في السفر عقبة].
بمعنى أنه إذا سافر فقد جرت العادة أن الرقيق يقوم على دابة السيد، فقد يقود به البعير، فإذا قاد به البعير فعلى السيد أن ينزل من أجل أن يركب الرقيق، فمن يقول هذا؟! من الذي يحفظ الحقوق على أجمل صورة وأكملها؟ حتى إن عمر رضي الله عنه وأرضاه نزل لمولاه، كما في السير حينما سافر إلى الشام، فإنه أركب مولاه عقبه، وأخذ بخطام البعير رضي الله عنه وأرضاه وهو ثالث رجل في الإسلام، وما منعه علو مكانه وشرفه، بل ازداد والله شرفاً وكمالاً رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه تربى في مدرسة النبوة التي هي أنوار التنزيل من الله سبحانه وتعالى الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين.
فالمولى يعطى حقه حتى في الطعام، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كما في الحديث الصحيح: (إذا كفى أحدكم خادمه طعامه حره ودخانه) يعني: إذا كفاك العبد مئونة تهيئة الطعام فجلس ينفخ على الحطب والنار ويؤذى بدخانه حتى أنضج لك الطعام (فليجلسه معه وليطعمه مما يطعم، فإن لم يفعل فليروغ له لقيمات وليعطها له)، أين يكون هذا؟! من الذي يتكلم بالحقوق بكل نزاهة ونقاء وصفاء ووضوح وجلاء غير هذا النبي الكريم الذي علمه ربه وأدبه صلوات ربي وسلامه عليه إلى يوم الدين؟ فالمقصود أن الرقيق إذا قام بالعمل أعطي شيئاً من الراحة، فيجلسه يأكل معه، وإذا كان الأمر فيه صعوبة أو أن الطعام لا يسع اثنين، فليروغ له لقيمات، يعني: يأخذ الخبز ويضعه في الإدام ثم يعطيها لذلك الرقيق شكراً للمعروف وذكراً للإحسان، وهل قامت أمور المسلمين إلا على حفظ حق أهل الحقوق؟ حتى الرقيق حفظ حقه مع أنه مملوك ويخدم فيشعره أن له فضلاً، وأن له حسنة ومعروفاً؛ لأن هذا تشريع العليم الحكيم سبحانه وتعالى؛ الذي يعدل بين خلقه ويفصل بين عباده، فلا أتم منه حكماً جل جلاله وتقدست أسماؤه، فإذا قام على الطعام أطعمه من الطعام وواساه وأحسن إليه، وإذا كان معه في السفر وقام على دابته وتعب وهو يقود به دابته أركبه مكانه.
وهذا أيضاً يشعر السيد بما قام به العبد؛ ولذلك لا تستقيم أمور الإسلام، ولا يستقيم أمر مسلم إلا إذا عرف لكل ذي فضلٍ فضله، ولا تجد أحداً ينال السؤدد والعظمة والكمال والشرف إلا إذا كان يحفظ حق الصغير قبل الكبير، وتجده يتلمس مواضع إحسان الغير إليه، فإذا جلس مع الناس ولو كان هو المحسن، ولو كان هو الذي يكرمهم ويعطيهم فأول ما يفكر أن يفكر في الذي قدمه له الناس قبل أن يفكر ما الذي قدمه للناس، وهذا شأن أهل الكمالات والعلو، الرجل يدخل إلى بيته فإذا جاءت زوجته ووضعت الطعام بين يديه شكر لها صنعها، وولده يأتي ويقدم له حذاءه فيدعو له دعوةً صالحة، ويقول له: بارك الله فيك.
وإذا كان مُعلِّماً وأحسن إليه تلميذهُ أو قام على شأنه، أو إمام مسجد أو رجلاً مسناً وجد من يخدمه؛ رمى له بالكلمة الطيبة وجعله بخير، وشعر بفضل أهل الفضل.
والعكس أيضاً: فإنه إذا قابل المعروف بالإحسان قابله محسن بإحسان أعظم مما أحسن إليه، فألفت الناس على الخير والإحسان.
وأما إذا كان الشخص لا يعرف فضل أهل الفضل -والعياذ بالله- لا في الدين ولا في الدنيا، يتعلم من أئمة وعلماء السلف، ثم لا يلبث أن يؤلف الكتب في نقدهم وتتبع عثراتهم وكشف عوارهم، أو يتعلم عند المعلم فيجلس ليجمع سقطاته، أو ينتفع بمحاضرة الداعية في صلاحه واستقامته ثم لا يلبث أن يكشف عوار محاضرته، وهكذا حتى يظلم قلبه ويطمس عليه؛ لأن الله لا يرضى بكفران النعم، والكفر أساس الشر، وكُفر النعم يكون برد المعروف بالإساءة؛ {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:٦٠].
فالإسلام لا تقوم أموره إلا على حفظ المعروف، فانظر إلى الرقيق عندما يحفظ سيده له هذا المعروف؛ ولذلك قال الإمام الشافعي: (إن الحر من حفظ وداد لحظة وتعليم لفظة)، فلا يمكن أن تستقيم أمور الإسلام والمسلمين إلا بهذا؛ أن تكون عالي النفس عالي الهمة، تشعر أن للناس عليك فضلاً قبل أن تشعر بفضلك على الناس، فإذا نظر الإنسان بهذه النظرة بارك الله أمره ووضع بين الناس محبته والقبول.
ولذلك تجد الإنسان الذي يعيش بين الضعفاء يتلمس إحسانهم إليه ويقابله بالإحسان؛ تجده في أحسن المراتب وأفضلها وأكرمها وأعزها؛ فالناس تلهج بذكره الجميل، وتعطر له الثناء الطيب، وإذا مات صار حياً بين الناس بذكره الطيب وبحسناته ومآثره، كما كان ذلك لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان لهم فيه قصب السبق، فكان أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه إذا مشى معه عبيده لا تستطيع أن تفرق بين ثوبه وثيابهم، حتى إنه قد لا يعرف من بينهم مما كان منه رضي الله عنه، حفظاً لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي وصى بها في الرقيق.
والعكس: فإذا وجدت الشخص لا يحفظ هذا المعروف، فتجد الزوج لا يتلمس حسنات زوجه التي كفته ولده، ويقابل ذلك بالنقد والتنقد للأمور والكشف للعوار والعيب وجدت القلوب تظلم عنه، والمرأة تنفر منه، ومن هنا قوله صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله)، وهذا مفهومه أن شر الناس شرهم على أهله، وكذلك أيضاً العامل إذا كان عند من يكفله يتفقد حسناته ويقول له: جزاك الله خيراً، ويرد له بالكلمة الحسنة، وإذا جاء يعطيه أجرته قال له: جزاك الله خيراً، قمت بخير كثير، فشكر له معروفه وإحسانه، فيخرج من عنده وهو يذكره بكل خير، وكم تجد الآن من الناس ممن يجلس معك يقول: كنت أعمل مع فلان جزاه الله كل خير، وعملت مع فلان فصنع لي وفعل، وهكذا إذا فعل الإنسان الإحسان حفظ الله له إحسانه.
فالمطلوب من السيد أو الولي أن يحسن إلى مولاه، وأن يتفقد حاجته؛ وكما أنه يحسن إليه يحسن إليه فيتفقد حوائجه ويركبه في السفر عقبة.
وقد اختلف في مقدار العقبة: أثر رواية عن الإمام أحمد أنه يركبه في اليوم ستة أميال في مسير الإبل، وهذا قد يقارب سبع إلى ثمن المسافة في السفر في الوقت المعتدل ليس بشديد الحر ولا شديد البرد؛ لأن الإبل تسير ما بين (٧٠ - ٨٠) كيلو في اليوم الكامل من أول النهار إلى آخره، والعقبة إذا كانت ستة أميال فإنها تقارب الثمن؛ لأن مسيرة اليوم ثمانية وأربعين ميلاً هاشمياً وهي تقارب الستة الأميال فيما أثر عن الإمام أحمد رحمه الله وبعض العلماء يقول: لا يقدر، وهذا في الحقيقة فيه مناسبة.
والفرق بين القولين: أنك إذا قلت: ستة أميال قد تكون الستة الأميال في آخر السفر، لكن هناك قول ثان يقول: لا يقدر.
بمعنى أنه يركب ثم إذا قطع مسافة نزل وأركب المولى بقدر ما يستريح، وهذا القول ربما يكون أعدل.
وكان بعض مشايخنا رحمه الله يقول هذه المسألة: الأوْلى فيها أن يترك السيد لحاله مع رقيقه ينظر إلى حاجته، والأوضاع والأسفار تختلف، والمواضع تختلف، فلا يقدر بقدر؛ لأنه ليس هناك نص بالتحديد، فيبقى الأمر على ما فيه رفق وعلى ما فيه معروف وإحسان.
وهذا هو الأشبه في هذه المسألة.
قوله: (في السفر) مفهومه أنه في الحضر لا يلزمه ذلك؛ لأن المسافات فيه لا تصل إلى قدر الإحراج، ولكن في السفر المشقة عظيمة.