للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[التخيير في كفارة اليمين بين خصال الكفارة]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.

أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: يخير من لزمته كفارة يمين بين إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو عتق رقبة] الواجب في الشريعة ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: الواجب المضيق المرتب، الذي لا يجوز للمسلم أن ينتقل فيه بعد ترتيب الشرع إلى أمر لاحق؛ إلا بعد العجز عن الأمر السابق، كما في كفارة الظهار، وكفارة الجماع في نهار رمضان؛ فإن هذه واجبة لازمة على من ارتكب المحظور، ولكنه لا ينتقل إلى الخصلة الثانية التي رتبها الشرع على الأولى إلا بعد العجز عن الأولى، وهذا يسميه العلماء: بالواجب المرتب.

وقد نص ابن عباس رضي الله عنهما على أن ما ورد بثم، لا يجوز للمسلم أن ينتقل إلى الخصلة الثانية إلا بعد عجزه عن الخصلة الأولى.

فهذا واجب مرتب يجب على المسلم أن يلتزم ترتيب الشرع فيه.

القسم الثاني: الواجب المخير، وهو الذي وسع الشرع فيه على المكلف، فخيره بين خصلتين أو ثلاث أو أربع، إن فعل واحدة منها أجزأه.

وفي الحقيقة كفارة اليمين جمعت بين النوعين، ففيها الواجب المرتب، وفيها الواجب المخير، فخيّر الله عز وجل بين الإطعام والكسوة والعتق، ورتب ما بين هذه الثلاثة إذا عجز عنها أن ينتقل إلى الصيام.

وعلى هذا يكون الواجب في كفارة اليمين قد جمع بين الأمرين: الترتيب والتخيير، فبيّن المصنف رحمه الله: أن من لزمته كفارة -وقد قدمنا شروط الحنث، ومتى يحكم بكون الإنسان حانثاً في يمينه- فعليه الكفارة؛ لأن الله سبحانه وتعالى أوجب الكفارة كما في آية المائدة: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة:٨٩] فهذه الآية أصل في كفارة اليمين، وقد نص الله عز وجل فيها على خصال الكفارة.

فبيّن رحمه الله الواجب الأول: وهو إطعام عشرة مساكين، وإطعام عشرة مساكين على وجهين عند العلماء: الوجه الأول: أن يطعم كل مسكين ربع صاع، كما في كفارة الظهار، من حديث سلمة بن صخر البياضي، حيث أطعم ستين مسكيناً خمسة عشر صاعاً، وهذا يقتضي أن يكون لكل مسكين ربع صاع.

الوجه الثاني: أن يطعم كل مسكين نصف صاع، كما في كفارة الفدية في النسك من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه الذي في الصحيح، وفيه أن من ارتكب المحظور من حلق رأس ونحو ذلك لزمته الفدية، وقد أمر الله عز وجل فيها بنصف صاع، فقالوا: هذا يدل على أن الإطعام يكون بنصف صاع.

والحقيقة أنه لو اقتصر الشخص على ربع صاع أجزأه، لكن الأحوط والأحسن له أن لا ينقص عن نصف صاع، هذه الصورة الأولى.

ثم يرد

السؤال

هل الكفارة في اليمين تمليك، أو يقصد منها مطلق الوقوع؟ بمعنى: أن الشخص يجب عليه أن يعطي المسكين الطعام، والمسكين يتصرف في الطعام كيف شاء، فهذا تمليك، وحينئذٍ لا يجوز أن يصنع الطعام ويدعو المسكين إليه؛ لأن التمليك يقتضي أن يكون المسكين حراً بين أن يأكله اليوم أو غداً أو بعد غد، فيملك هذا الذي ملّكه الله عز وجل إياه، وإن قلنا: إنها ليست بتمليك فيكون من حقه أن يطعمه، وأن يصنع الطعام ثم يدعو عشرة مساكين فيأكلون ذلك الطعام.

ثبت عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم أطعموا، كما في قصة أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وأيضاً الأصل يقتضي عموم الإطلاق، ولكن التمليك أحوط، والجمهور على أنه لو أطعم يجزيه.

وإطعام عشرة مساكين يستوي فيه أن يكونوا ذكوراً أو إناثاً، أي: تمحضوا بالذكور، أو تمحضوا بالإناث، أو جمعوا بين الذكور والإناث، ويستوي أن يكونوا كباراً أو صغاراً، فلو نظر إلى أسرة فيها عشرة أفراد أجزأه، ثم يرد السؤال: هل يشترط أن يكون الصغير بعد الفطام ليأكل أكل المفطوم، أم يكون رضيعاً فيشتري له ما يرتضع به كحليب ونحو ذلك؟ وجهان للعلماء: والصحيح: أنه يجزيه سواء كان قبل الفطام أو بعده؛ وذلك لإطلاق القرآن، ولكن الأحوط أن يبرئ ذمته على الوجه الذي لا شبهة فيه.

قوله: (أو كسوتهم) الكسوة فيها وجهان للعلماء: منهم من أطلق الكسوة، حتى لو ألبسه ثوباً يستر عورته أجزأه، والصحيح: أن الكسوة لابد فيها من أن تكون كسوة تصح بمثلها الصلاة، وعلى هذا لو كساه ثوباً شفافاً لم يجزه، ودليلنا على ذلك السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صنفان من أهل النار لم أرهما، نساء كاسيات عاريات) فوصفهن بالكسوة، ولكن سلبهم هذا الوصف بالعري، وقد أمر الله بكسوة المسكين، فدل على أنها كسوة خالية من العري.

وعلى هذا لابد وأن تكون الكسوة التي تصح بها الصلاة في المرأة: الدرع والخمار، وفي الرجل: ما يستر به عورته، فلو أنه ستره بثوب غامق اللون يستر عورته، فيكون السروال والفنيلة فضلاً، ولو ستره بقميص وسروال أجزأه، ولو ستره بإزار ورداء كإزار الحج والعمرة وردائهما، فإنه يجزئه.

إذاً: بالنسبة للثياب يشترط فيها: أن لا تكون معيبة عيباً يقدح في وجود الكسوة فيها، فلو أنه كانت عنده ثياب يلبسها هو وكساها فيجزيه ذلك، ما دام أنها نظيفة صالحة للاستعمال، وهكذا بالنسبة للثياب التي كساها للصغار من المساكين، لو أخذ كسوة أولاده فكساهم إياها وهي صالحة للاستعمال أجزأه.

قوله: (أو عتق رقبة) يستوي أن تكون الرقبة صغيرة أو كبيرة، وقد بينا هذا وفصلناه في مسألة العتق في كفارات الظهار والجماع في نهار رمضان.

ولكن هنا هل يشترط إيمان الرقبة أو لا يشترط؟ الأقوى أنه يشترط إيمان الرقبة؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في صحيح مسلم من حديث معاوية بين الحكم رضي الله عنه-: (أعتقها فإنها مؤمنة) وذلك بعد أن سأل الجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء.

قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله.

قال: أعتقها فإنها مؤمنة) أي: أعتقها من أجل أنها مؤمنة.

فالرق ضُرب من أجل الكفر، فلا يعقل أن الشريعة تأمر بضرب الرق على الكفار المحاربين، ثم بكل سهولة يعتقون، إذاً ما هي الفائدة؟ وعلى هذا لابد وأن تكون الرقبة مؤمنة، فإن قوله صلى الله عليه وسلم: (أعتقها فإنها مؤمنة) جملة تعليلية، أي: لأنها مؤمنة، ولم يقبل منه النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتق مباشرة، بل أمره أن يحضر الجارية، وسألها وامتحنها واختبرها صلى الله عليه وسلم وتكلف ذلك، فدل على أنه لا يجزئ أن يعتق كل رقبة.

قال بعض العلماء: يشترط عدم العيب في الرقبة إذا كان عيباً مخلاً يمنع العجز فإنه لا يصح ولا يجزئ، والصحيح أنه قد يجزئ، إلا إذا كان على وجه يريد به التخلص من الرقبة، فهذا أمر آخر.

[فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعة] وقد نص القرآن على ذلك، قال سبحانه وتعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة:٨٩] وفي قراءة ابن مسعود وأبي بن كعب، الأولى عند عبد الرزاق بسند صحيح، والأخرى عند ابن جرير وجود إسنادها غير واحد من العلماء: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) وهذا أخذ منه الحنابلة وطائفة وجوب التتابع في صيام الكفارة في الأيمان، وهو الصحيح إن شاء الله.

<<  <  ج:
ص:  >  >>