[جانب من منهجية طلب العلم الصحيحة]
السؤال
في الإجازات تكثر الدروس، ويضغط بعض طلاب العلم أنفسهم إلى درجة الارتباط بأربعة أو خمسة دروس في اليوم الواحد، وكل درس منها يحتاج إلى جهد كبير حتى يضبطه طالب العلم، والبعض منهمك في جميع هذه الدروس، الأمر الذي أضعف لديه الضبط، حتى أصبحت كثرة الدروس سبباً في الترف في الطلب، فهل ارتباط طلبة العلم على هذا الوجه أصح وأصوب، أم ماذا؟ نرجو الجواب في هذه المسألة المهمة، أثابكم الله؟
الجواب
التركيز في طلب العلم مهم جداً، وطالب العلم الذي يحدد العلم الذي يتعلمه، ويحجم قدره مع طول الزمان وقوة الضبط، لا شك أنه أعظم بركة وخيراً، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (كنا لا نتجاوز عشر آيات حتى نتعلمهن ونعمل بهن، ونعلمهن، ونعلم حلالهن وحرامهن، فأوتينا العلم والعمل)، فكانوا يكرسون جهودهم في العشر الآيات حفظاً وفهماً وعملاً، وهم من أقوى الناس حفظاً، وأصفاهم ذهناً، وأعرفهم بمواطن التنزيل ودلالة النصوص، وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول، ومع ذلك كانوا يحفظون عشر آيات فقط.
فانظر رحمك الله كيف بورك لهم في علمهم، وكيف بورك لهم في ضبطهم، فالعلم المركز المؤصل هو الذي يقرؤه طالب العلم ويردده، ويحاول ألا يجعل للسآمة إلى قلبه سبيلاً، فلو عندك درس في الأسبوع، فتقرأ منه مثلاً سطرين، ولكن لا تتعجل وتقول: متى أنتهي من الكتاب، فهذا ليس إليك، ولا تسأل متى تنتهي، المهم أن يبارك الله لك، انظر إلى طالب علم يقرأ السطر والسطرين فلا يفتأ عن قراءتها قبل الدرس المرات والكرات، ثم إذا جاء الدرس جاء على أجمل ما يكون عليه طالب العلم، جاء وهو يُري الله عز وجل أنه أمين لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه يجلس في مجلس علم قد حضّره وضبطه، لا أن يكون عهده بالدرس حينما يفتح كتابه، بعضهم يجلس ليبحث أين انتهينا في المجلس الماضي، وهو لا عهد له بالكتاب إلا حين يفتحه، هذا ليس بطلب علم، طالب العلم لا يمكن أن يفارق كتابه، فتجده يراجع المرة والمرتين والثلاث والأربع قبل أن يجلس في مجلس العلم، ويبحث عن الكلمات وضبطها، وهل هذا فاعل أو مفعول إلى أن يرتب الجمل والعبارات، ثم يحاول أن يجد فهماً بسيطاً أو سهلاً يُسهل له مجلس العلم وضبط المسائل التي تقال فيه، حتى إذا جلس في مجلس العلم بهذا القليل؛ وعاه وفهمه، ثم رجع إلى بيته فقرأه وضبطه، وإذا أمكن أن يستمع للشريط المرة والمرتين والثلاث حتى يكاد يحفظ.
نعم، لو أن كل طالب علم استشعر، كما كان بعض مشايخنا يوصينا، وهذه من أعظم نعم الله عز وجل، أنه ذات يوم قال لي شيخ من الأزهر -أسأل الله أن يتغمده برحمته، وأن يسكنه فسيح جناته، وجميع علماء المسلمين وأئمتهم، والمسلمين جميعاً- هذا العالم كان من البقية الباقية، نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله عز وجل، وكنت في الثانية من المتوسط، وشاء الله أنني جئت وسألته عن مسألة، وهو لا يدرسنا؛ لأنه كان يدرس في الكلية، ولما سألته قال لي: يا بني! أين تدرس؟ فذكرت له لأنه لا يعرفني، وهو يعرف الوالد حيث كان صديقاً له رحمه الله، فقال: يا بني! سأوصيك بوصية في هذا العلم تستفيد منها: لا تقرأ مسألة في العلم إلا وقد حصل عندك شعور في نفسك أنك ستسأل عنها يوماً من الأيام، أي مسألة، حتى ولو لغوية نحوية أو أياً كانت، قال لي: إن الله سيسألك عما تعلمت: لك وللناس، لك: هل عملت به، وللناس: هل علَّمته، فما من مسألة تعلمتها وسمعتها، إلا وقد أُلقيت على كتفك أمانة، فالعالم قد أعذر إلى الله، فكل مسألة تقرأها عن شيخك؛ فاعلم أنك قد حملتها عنه شئت أم أبيت، فلو أن كل طالب علم يهيئ نفسه لكل مسألة درسها أنه سيسأل عنها لضبط العلم.
الأمر الذي يستدعي قلة القراءة مع قوة الضبط.
واكتب قليلاً إن أردت تحفظ.
الحروف إن أردت تلفظ فطالب العلم الذي يكتب القليل ويدمن قراءته وضبطه، هو الذي يخرج للناس غداً عالماً بإذن الله عز وجل، نحن لا نريد كمَّاً هائلاً، تجد الطالب يأتي ويقول: والله هذه المسألة بحثناها، والله هذه المسألة قرأناها، والله عندنا دورة في العقيدة، ودورة في الحديث، ودورة في الفقه، ودورة في النحو، ودورة في كذا، فما يستطيع بهذا الشتات أن يضبط.
والسائل معه الحق، وهذا فيه نصيحة لنا، نحن لا نمنع أن يكون هناك أكثر من درس لطلاب العلم؛ للتنوع، لكن إن يضغط طالب العلم على نفسه بهذه الدروس كلها، قالوا: لأن العلماء ما لهم إلا درس في الأسبوع، خاصة إذا كان درساً في الزاد، والدرس هذا لا يزيد على سطر أو سطرين، قالوا: نحن نريد كل يوم درساً، وارتقى بعضهم إلى درجات الكمالات فقال: نريد في كل يوم أربعة دروس أو خمسة دروس، فلذلك هذا الكم مثل ما ذكر السائل يكون ترفاً علمياً، اجلس في هذه الدروس الأربعة، وفي نهاية العطلة أو في نهاية الإجازة انظر ماذا حصلت، واجلس في درس واحد وأعطه حقه من الضبط والإتقان، وانظر ماذا وجدت، وستجد الفرق.
هؤلاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وكل واحد منهم قد طلب العلم، وأخذه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجد أئمة التابعين ما من واحد إلا وقد لزم شيخاً منهم، فـ ابن عباس له طلابه الذين نبغوا وضبطوا علمه، وزيد بن ثابت له طلابه، وأبو هريرة له طلابه الذين أخذوا عنه، وعبد الله بن عمر له طلابه، أسانيدهم وطرقهم معروفة محفوظة.
فكثرة الشتات والتنوع متعب جداً وعواقبه وخيمة على طالب العلم، فالذي أوصي به تحجيم الدروس، والاكتفاء بالدرس الذي تضبطه وتجد أنك تعطيه حقه، وهو بإذن الله عز وجل قليل مبارك، وفيه خير كثير لا تطيقه، هذا الذي أوصي به، أما أن يكون لطالب العلم أربعة أو خمسة دروس في الأسبوع الواحد، فلا أدري كيف يضبطها، ولكن اضبط علماً وأعطه وأعطيه حقه، ثم بعد ذلك انتقل إلى غيره، وسيبارك الله عز وجل لك فيه، هذا فيما أراه، وهو الذي أدركت عليه أهل العلم رحمهم الله، والذي يريد أن يجرب التنوع فليفعل ذلك، فقد تكون عنده ملكة وقوة على ذلك، والله تعالى أعلم.