قوله:(ومن أمكن) أي: أن يولد لمثله، وكذلك تكون المرأة أيضاً في حملها ووضعها على صفة لا يستحيل أن ينسب الولد إليه، وهذا ما فسره رحمه الله بقوله:[بأن تلده بعد نصف سنة].
بأن تلد الولد بعد نصف سنة من دخوله عليها، فإذا كان دخوله في أول السنة وولدت بعد ستة أشهر من دخوله، فإن الستة الأشهر زمن يمكن أن يكون به الحمل، فينسب الولد للداخل، لكن لو كان قبل ستة أشهر فلا يمكن؛ لأن الله يقول:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا}[الأحقاف:١٥]، فجعل الحمل مع الفصال -يعني: انتهاء مدة الرضاع حين يفصل الولد وينتهي من الرضاع- ثلاثين شهراً، الرضاع له سنتان، أي: أربعة وعشرون شهراً لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}[البقرة:٢٣٣]، فالحولان أربعة وعشرون شهراً، وإذا كان الله عز وجل يقول:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا}[الأحقاف:١٥] فبقي من الثلاثين ستة أشهر، وهي أيام الحمل.
ومن فقه العلماء أنهم فرعوا من هذه الآية الكريمة ما لا يقل عن خمسين مسألة من مسائل الأحكام الشرعية، بل كان بعض مشايخنا يقول: لو شئت أن أوصلها إلى مائة مسألة لأوصلتها! وكلها من قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا}[الأحقاف:١٥]، ومنها مسائل الحمل والإثبات خاصة عند اختلاط الأنساب، وحصول وطء الخطأ، ووطء الشبهة، ومسألة إسقاط الجنين إذا كانت المرأة توفيت وفي بطنها جنين فمتى يشق بطنها؟ كل هذه المسائل تتعلق بالستة الأشهر التي جعلوها زمن الإمكان لدلالة نص القرآن عليه، حتى الأطباء يستفيدون من هذه الآية الكريمة، فالستة الأشهر هي مدة الحمل، فإذا ولد الجنين في أقل منها فإنه ينسب إلى الداخل السابق، لا إلى الداخل الأخير، فإنه إذا ولدت قبل ستة أشهر من دخوله عليها فمعنى ذلك أن الحمل من غيره لا منه هو؛ لأنه لا يمكن أن يقع حمل ووضع قبل ستة أشهر، وبناءً على ذلك قال المصنف رحمه الله:(بأن تلده بعد نصف سنة) أي: ستة أشهر، السنة القمرية اثنا عشر شهراً، فإذا ولدت بأقل من ستة أشهر فإنه لا يمكن أن ينسب الولد إليه.
قال المصنف رحمه الله:[منذ أمكن وطؤه].
القضية ترجع إلى دخوله عليها، فما هو الضابط في السن؟ هل العبرة بتسع سنين أو بعشر سنين أو باثنتي عشرة سنة أو بخمس عشرة سنة؟ ومتى يبلغ الذكر حتى يتأتى منه المني وتحمل امرأته؟ الضابط عند بعض العلماء عشر سنوات، وهي سن التمييز، فإذا دخل في العاشرة فإنه يمكن أن يحتلم، فمن الناس من يبكر ويحتلم وهو في العاشرة، فقالوا: العشر هي أقل حد، فإذا حملت منه وعمره تسع سنين لا ينسب إليه، ولو حملت منه وعمره ثمان سنين لا ينسب إليه؛ لأنه في الغالب -والحكم للغالب- لا يحتلم في مثل هذه السن، وقالوا: سن التمييز ذكره النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنوات، وهي أقل ما يمكن أن يكون فيها الاحتلام، وبعض الأطباء المتأخرين يقولون: فعلاً في الطب ما يشهد بصدق من قال من الفقهاء بهذا القول، وهذا من معجزاته عليه الصلاة والسلام حينما أمر بضرب الصبي لعشر.
على كل حال، الأصل أنه لابد أن يكون حمل هذه المرأة يمكن أن ينسب لزوجها، بأن تلده بستة أشهر منذ أمكن وطؤه، فالعبرة بالوطء الذي يتأتى منه الحمل، فإذا كان إمكان الوطء له أربعة أشهر أو خمسة أشهر؛ نسب إلى ما قبله لا إليه.