[حكم تصرف من أصيب بالجروح وحوادث السير]
بقي السؤال عن مسائل الطعن والجروح والحوادث التي تقع الآن، فقد يصدم الإنسان في سيارة، أو تصدمه سيارة وتستنفذ مقاتله، أو يطعن أو يضرب بطلقات نارية حتى تستنفذ مقاتله بحيث يغلب على الظن أنه ميت، فما حكم مثل هذا؟ ينقسم مثل هذا إلى قسمين من حيث القول باعتباره كمرض الموت وعدم اعتباره: فإن كانت الإصابة لم تذهب عقله بحيث يكون عنده التركيز والشعور، فإنه حينئذٍ يصح تصرفه على التفصيل المعتبر، ويكون في حكم المريض مرض الموت، وهنا عندنا مسألتان: المسألة الأولى: هل نعتبر وصاياه؟ المسألة الثانية: هل هو في حكم المريض مرض الموت؟ فاعتبار وصيته موقوف على كونه عاقلاً، وأن هذه الإصابة لم تذهب عقله.
وحوادث السيارات -نسأل الله السلامة والعافية- بعض إصاباتها قد تذهب عقل الإنسان وتمييزه وإدراكه، وحينئذٍ فلا يصح تصرفه، وأما إذا كان عنده الإدراك والعقل، وشعوره معه، فإنه يحكم بصحة وصيته، ولكن يسري عليها ما يسري على وصية المريض، وكذلك عطيته تصح ويكون حكمها حكم عطية المريض مرض الموت، هذا إذا كانت الإصابة قد أثرت فيه أثراً الغالب أنه يموت بسببه.
أما الدليل على كوننا نحكم بأن وصيته وعهده صحيح وتصرفه صحيح مع أن الغالب أنه سيهلك وسيموت: فهو أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الصحيح: أنه لما طعنه أبو لؤلؤة المجوسي -لعنه الله- وحُمِل إلى بيته، ثم جاء من يعالجه ويداويه وأمر بسقيه اللبن فخرج اللبن مع الجرح وعلم أنه ميت، فلما علم ذلك وصى رضي الله عنه وأرضاه وعمل الصحابة بوصيته؛ فدل هذا على أن الطعن أو الإصابة أو الحادث أو إصابة الحادث إذا كان الغالب أنها تهلك الإنسان، لكن شعوره معه وإدراكه معه، فإنه يحكم بصحة تصرفاته، ولكن تبقى هذه التصرفات في حكم تصرفات المريض مرض الموت.
أما لو أنه غيب وأصبح يخلط مثلما يقع -نسأل الله السلامة والعافية- في بعض الإصابات في الرأس التي تذهب العقل، وقد يأتي معها نزيف في الدماغ أو نحو ذلك، ويصبح عند الإنسان خلط وعدم ضبط، فمثل هذا لا يصح تصرفه، ويعتبر في حكم المجنون، ويحجر عليه، ولا تصح منه هبةٌ ألبتة، بمعنى: لا نحكم بصحة هبته، فلو قال مثلاً: تصدقوا وأعطوا الفقراء والمساكين، والأطباء يقولون: إن هذه الإصابة قد أثرت في عقله وأصبح لا يميز، فإنه قد تقدم معنا أن المجنون محجورٌ عليه وأنه لا ينفذ تبرعه، وحينئذٍ ينتقل المال كله للورثة.
هذا بالنسبة لمسالة الإصابات، لكنها إذا كانت الإصابة خطيرة والغالب أن صاحبها يهلك، فإنها تكون في حكم مرض الموت بلا إشكال عند العلماء رحمهم الله.
قال رحمه الله تعالى: (ولا بما فوق الثلث).
أي: ولا تصح عطيته بما فوق الثلث، فإذا كان عنده ثلاث مائة ألف وأصابته هذه الأمراض المخوفة، أو تعرض لهذه الحالات التي نحكم فيها بكونه في حكم مرض الموت فإنه لا ينفذ تبرعه فيما زاد عن الثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ سعد رضي الله عنه لما قال: (أفأوصي بمالي كله؟ قال: لا.
قال: فبثلثيه؟ قال: لا.
قال: فبالنصف؟ قال: لا.
قال: فبالثلث، قال: الثلث والثلث كثير)، فبين صلى الله عليه وسلم بذلك أنه لا حظ له فيما زاد عن الثلث، وأنه لا يجوز له أن يجاوز هذا الثلث إلزاماً، لكن لو رضي الورثة وطابت خواطرهم بذلك فحينئذٍ لا إشكال؛ لأن الحق لهم، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم)، فكل عطيةٍ أعطاها ومرضه مرض مخوف فإننا ننظر في قدرها من رأس المال والتركة، فإن عادلت ثلث ماله أو أقل صحت ونفذت، وإن كانت فوق ذلك فإنها تصح في الثلث ويبقى ما زاد عن الثلث موقوفاً على إجازة الورثة.
وقوله: (إلا بإجازة الورثة لها) استثناء، أي: إلا إذا أجاز الورثة ما زاد عن الثلث، وقد جاء ذلك مرفوعاً في الأثر: (إلا أن يجيز ذلك الورثة)، فإذا أجاز الورثة فإنهم يجيزون أمرين: الأمر الأول: أن يجيزوا وصيته للوارث، فلو أنه قال: أعطوا ولدي محمداً مائة ألفٍ من تركتي، لكن محمد وارث، فحينئذٍ نقول: لا يجوز له أن يوصي لوارث، ثم نسأل بقية الورثة: هل تجيزون وصيته لأخيكم؟ فإن قالوا: نعم، أجزنا وصية أبينا لأخينا، فحينئذٍ تمضي، ولكن هل تعتبر عطيةً مبتدأة أو تعتبر عطية ماضيةً كانت موقوفةً ثم نفذت؟ فنبني على ذلك فروعاً سيأتي بيانها -إن شاء الله تعالى- في كتاب الوصايا.
الأمر الثاني: أن يجيزوا وصيته بما زاد عن الثلث، فإن أجازوها مضنت ونفذت، وإلا فلا.