وقوله:[وإن قتل ولم يأخذ المال قتل ولم يصلب] هذه الدرجة الثانية من العقوبة، وهي القتل دون الصلب، وفيها أثر ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال:(إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا ثم صلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا) ففرق بين أن يكونوا قد اعتدوا على المال مع القتل، وبين كونهم قتلوا فقط، ومن هنا اختار الإمام أحمد وأصحابه وهو مذهب بعض العلماء أيضاً، أنهم إذا قتلوا ولم يأخذوا المال أنهم يقتلون ولا يصلبون، وهذه الصورة كثيراً ما تقع في حالات البغي والاستكبار، وهي العصابات التي تريد إثبات عدوانها على المجتمع بتخويف المجتمع وإرهابه، وليس لها مطمع بالمال أكثر، وإنما تريد زعزعة أمن الناس، وإقلاقهم وإشعارهم بأنهم أهل قوة وشوكة وغلبة، ويقع هذا من العصابات في العمران والصحاري.
فالعصابة حينما تقدم على القتل المجرد دون أخذٍ للمال فهذا غالباً ما يكون من أشد الأذية والإضرار بالناس، لأنهم يريدون إرعاب الناس، ومن هنا قال العلماء: إن من تأمل حد الحرابة وجد أنه يضر الناس في أعظم مصالحهم بعد الدين، وهو عصب حياتهم وهي التجارة، لأن هذا النوع من الجرائم كان مؤثراً تأثيراً شديداً في أمن السبل، وأمن السبل لا يراد فيه غالباً إلا انتقال الناس؛ لأن السفر أكثر ما يقع للتجارة، وابتغاء فضل الله عز وجل، ومن هنا قال بعض الأئمة: إن الله عز وجل رحم عباده بالتجارة، وبين أن التجارة ابتغاء لفضل الله:{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}[المزمل:٢٠]، وقال:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}[الجمعة:١٠]، وقال:{فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}[الملك:١٥] فجعل المال من رزقه وعطائه لعباده وخلقه، فإذا وقعت الحرابة قطعت سبل الناس، وحينئذٍ تجد بعض القرى قد يموت فيها الناس ويهلكون، ولا يستطيعون أن يتوصلوا إلى طعام، ولا دواء ولا كساء؛ لأن التاجر لا يستطيع أن يخاطر بنفسه ولا بروحه.
وهذه هي الميزة التي ينبغي لكل من يدرس الفقه الإسلامي خاصة فقه الجنايات أن لا ينظر إلى العقوبة مجردة، وإنما ينظر إلى الجريمة التي شرعت من أجلها العقوبة بجميع صورها، وينظر إلى آثارها، فأكثر ما تأتي العقوبة مراعية للأثر المترتب على الجريمة، حتى إنك لو تأملت شيئاً قليلاً في السرقة فقط، لو تأمل الإنسان العقوبة مجردة عن أسبابها قد يزيغ رأيه والعياذ بالله، ويعزب رشده، كيف تقطع اليد من أجل مبلغ من المال والنفس والروح أعظم، وكيف يقتلون هنا ويصلبون وتقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، من أجل مال يسير، خاصة إذا كان دون النصاب.
لكن إذا نظرت إلى أن الشخص الواحد الذي يحمل سلاحه في العراء وفي الصحراء يهدد أمة، لا قافلة أو شخصاً أو شخصين.
وأيضاً: فإنه يعين غيره أن يسلك مسلكه، فلو سكت عنه الناس وسكتت عنه الشريعة ولم تعاقبه، لفتحت باب الإجرام والمجرمين، فينظر الإنسان للآثار، ولذلك فإن الذين يشهرون بالإسلام ويرفعون عقيرتهم بأذية المسلمين في باب الحدود والجنايات كلهم لا يعقلون؛ لأن الذي عنده عقل ينظر إلى الجريمة من جميع الجوانب، وهؤلاء ينظرون يقولون: كيف يقتل وكيف يصلب! هذا شيء بشع، أن يؤتى بالشخص ويعلق مصلوباً أمام الناس، فينظرون إلى الجاني ويرحمونه، ولا ينظرون إلى الأمم التي تخوف في أموالها ودمائها وأعراضها ومصالحها، وكيف يضرب في عصب الحياة، ليس على سبيل القرية أو المدينة، بل قد يكون ذلك على سبيل الأمصار والأقطار، ومن هنا ففي العقوبة التي وردت في الشريعة في حد الحرابة ينبغي أن ننظر إلى الآثار المترتبة على الجريمة كاملة، ولا ننظر إلى مجرد شخص يأتي ويعتدي فقط، أو: هل المال بلغ النصاب أو لم يبلغ النصاب؟ أو كيف نعاقب بهذه العقوبة الشديدة على شيء تافه؟ فلو أنه أخذ مالاً يسيراً أو كسر زجاجاً فإننا نعتبره معتدياً على المال ونستبيح قطع يده ورجله من خلاف.
وعلى هذا فإننا نقول: إن من اعتدى على الأنفس ولم يعتدِ على المال فإنه يقتل ولا يصلب، وهذا هو الذي يدل عليه أثر حبر الأمة وترجمان القرآن، وهو الصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله.