وفي "الكردرية" أن يحيى بن أكثم روى عن والده أنه سمع زفر يقول: لم أجترئ أن أخالف الإمام بعد وفاته، لأني إذا خالفته في حياته، وأبرزت الدليل، وأتيت به ألزمني بالحقّ الظاهر من ساعته، وردّني إلى قوله، فأما بعد وفاته فكيف أخالفه؟ وربما لو كان حيا، وحاج لردّني إلى قوله. وهذا ليس بتقليد له، بل سكوت عما لا يعلم دليله، واطمئنان إلى الدليل، وفهم صحيح للدليل فيما يعلم، وهو الاجتهاد بعينه، وأبو حنيفة هو الذي كان ينهى أصحابه عن التقليد، ويأمرهم بإبداء ما عنده من الحجج، فيناقشهم فيها، حتى يستقرّ الحقّ في نصابه، وكان لأصحابه مقام عظيم في سرد الدلائل وتحقيق المسائل، بل كان أبو حنيفة يقول: لا يحلّ لأحد أن يفتي بقولي ما لم يعلم من أين قلته، ومع ذلك كلّه كان لزفر مخالفات في الأصول والفروع مدوّنة في كتب القوم، فلا يكون تأدّب زفر تجاه أستاذه محافظته على الانتساب إليه، وعرفانه لجميله عليه مما ينزل مقامه في الاجتهاد المطلق على حدّة ذهنه في قياس المسائل، وقوّة ضبطه للدلائل، وإتقانه للحديث، كما أقرّ بذلك أمثال ابن حبّان، وورعه البالغ معروف عند الجميع -رضي الله عنه وعن أساتذته وأصحابه أجمعين-.
ولزفر نحو سبع عشرة مسألة يفتي بها في المذهب عند نقاد المذهب، ألّف فيها السيّد أحمد الحموي شارح "الأشباه والنظائر" رسالة سمّاها "عقود الدرر فيما يفتي به في المذهب من أقوال زفر"، وشرحها الشيخ عبد الغني النابلسي، ومحصها ابن عابدين، وانفرادات زفر في المسائل مدوّنة في "منظومة النسفي" في الخلاف وشروحها ببسط. وقد أشار أبو زيد الدبوسي في "تأسيس النظر" في فصل خاص إلى مخالفات زفر في الأصول والفروع، كما أشير إلى آرائه الخاصة في الأصول في كتب الأصول المبسوطة، كـ "شامل الأتقاني"، و"بحر الزركشي"، و"شروح أصول البزدوي" خاصة، فإن كان شأن المجتهد المطلق الانفراد بمسائل في الأصول والفروع، فها هو زفر، له