ومعنى ذلك زجر العامة عما لا قبل لهم به من دقائق علم الكلام، خوفا عليهم من الزلل، وإلا فهو من أئمة علم أصول الدين، جادل الناس في مسائله، فجدلهم، ويشهد لذلك ما ذكره جمال الدين أبو يعلى أحمد بن مسعود الأصبهاني بإسناده عن خالد بن زيد العمري أنه قال: كان أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وحماد بن أبي حنيفة قوما قد خصموا بالكلام الناس، وهم أئمة العلم، كما ذكره صاحب "الفتاوى البزازية" في "المناقب"(١ - ٣٨).
[نشر زفر لمذهب أبي حنيفة في البصرة]
وروى ابن أبي العوام عن الطحاوي عن أبي خازم القاضي، سمعت أحمد بن عبدة يقول: قدم يوسف بن خالد السمتي "البصرة". من عند أبي حنيفة، فكان يأتي عثمان البتّي، وهو رئيسها وفقيهها، فيجاذب أصحابه المسائل، ويذكر لهم خلاف أبي حنيفة إياهم، فيضربونه، ويسبّون أبا حنيفة، فلم يزالوا كذلك، حتى قدم زفر بن الهذيل "البصرة"، فكان أعلم بالسياسة منه، فكان يأتي حلقة البتّي، فيسمع مسائلهم، فإذا وقف على الأصل الذي بنوا عليه تتبّع فروعهم، التي فرّعوا على ذلك الأصل، فإذا وقف على تركهم الأصل طالب البتّي، حتى يلزمه قوله، ويبين له خروجه عن أصله، فيعود أصحابه شهودا عليه بذلك، فإذا وقف أصحاب البتّي على ذلك، واستحسنوا ما كان منه، قال لهم: ففي هذا الباب أحسن من هذا الأصل، ويذكره لهم، ويقيم الحجة عليهم فيه، ويأتيهم بالدلائل عليه، ويطالب البتّي بالرجوع إليه، ويشهد أصحابه عليه بذلك، ثم قال لهم: هذا قول أبي حنيفة. فما مضت الأيام، حتى تحوّلت الحلقة إلى زفر، وبقي البتّي وحده. هذا في رحلة زفر إلى "البصرة" في حياة إمام أهل "البصرة" عثمان بن مسلم البتّي -رضي الله عنه-.