لم يكن دأبه في المطالعة كأكثر علماء هذا العصر من أن يطالعوا الكتب عند الافتقار إليها في الفتوى أو التأليف أو التدريس، فيراجعون فيما يحتاجون إليها من ذلك الموضوع خاصة، أو يتفقدّون ما أرادوه من مظانّه، بل كان دأبه في المطالعة أنه كلّما تيسّر له كتاب، مخطوطا كان أو مطبوعا، سقيما كان أو سليما، في موضوع علميّ، أيّ موضوع كان، من أيّ مصنّف كان، فيأخذه ويطالعه من أوله إلى الآخر بتمامه، من غير أن يُبقي شيئا أو يَذَر، نعم، كان جُلُّ جُهْده ومسعاه في أن يطالع كتبَ المتقدّمين، ثم كتب أكابر المحققّين من القرون الوسطى. رحمه الله تعالى.
وقال أيضا: ومن العجائب -والعجائب جَمَّة- أن الشيخ رحمه الله لم يكنْ من دأبه المطالعة بالليل لما يدرسه بالنهار، كما هو دأب عامّة المدرّسين، فلم يكنْ يطالع لشيء مما كان يلقيه في الدروس، حتى سمعتُ منه أني ما طالعتُ الكتاب الذي يقرأ على في عمري قطّ، فقوّة الحافظة كانتْ أغنتْه عن ذلك، فكفاه ما طالع في بدء عمره، وأغناه الصباح عن المصباح، لا أنه كان يلحقه الوَنَى أو الكَسَل أو الملال في المطالعة، بل جميع أوقاته كانتْ عامرةً بمطالعة الأسفار، وزبر المحقّقين.
نعم! قد كان يزوِّر في نفسه هُنَية لئلا ينتشر الكلامُ، ولئلا يتّسع مجال البحث كثيرا، وليكون ما يلقيه منضبطا محدودا، حتى يستطيع المستمعون والمستفيدون أن ينهضوا بأعبائها، ولولا ذلك لأعجزَ القوم عن التلقّي، فإنه كيف يسدّ البحر الزخّار، وكيف يوكأ على العيون الثرثارة.