أجيالا تلوَ أجيال من طلبة العلم، الذين غدوا بعد ذلك من كبار علماء البلاد السورية، فعيّن الشيخ أستاذا لتدريس الفقه الحنفى في صفوفها العالية.
ودرّس في هذه المدرسة الكبرى النظامية جملة من كنب الفقه المعتبرة، وكان من جملة ما قام بتدريسه فيها "القواعد الفقهية الكلية"، التي صُدِّرَتْ بها "مجلّة الأحكام العدلية"، وهى ٩٩ قاعدة. وكان الشيخ ابن بَجْدَة هذه المادة.
ولما رأى إقبال الطلبة على هذه المادة، وتزايد تعلّقهم بها، رأى من المناسب أن يشرح تلك القواعد شرحا، يزيدها وضوحا وتمكينا وتطبيقا في نفوس الطلاب، وقد درّسها خلال سنوات طويلة نحو عشرين سنة، فشرحها شرحا يعدّ أفضل الشروح، التي كتبت عليها حتى الآن، وسيأتي الحديث عنه في الكلام على آثاره العلمية قريبا.
[تنوع معارفه وعلومه]
وكان الشيخ إلى جانب ضلاعته في الفقه، وتمكّنه منه، له ولع شديد بالأدب القديم، وتعمّق في اللغة العربية وآدابها، كثير المطالعة في كتبها في المصادر الأولى، ذوّاقةً للشعر الأصيل، راويةً له، حفّاظًا للأخبار ونوادر الأدب، كأنها مادته العلمية التى يدرّسها، ويعلّمها كلّ يوم.
وكانت عادته في قراءة كتب الأدب والتاريخ والأخبار وغيرها، كعادته في كتب الفقه تماما، يدقّق فيها، ويقوِّم نصوصَها، ويعلّق على حواشيها، وينبّه على ما وقع فيها من أخطاء مطبعية، ويعتني بها اقتناءً ومتابعةً، كأن الأدب وهذه العلوم اختصاصه الوحيد.
وكان أشدّ ما يكون وَلَعا بكتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصبهاني، و"كتاب الحيوان"، و "كتاب البخلاء"، و"البيان والتبيين" للجاحظ،