أقول وبالله التوفيق: قد كثرت الأقوال في تعريف التاريخ، وبيان فضيلته، وأحسن ما وقفت عليه من ذلك، ما نقله صاحب كتاب "غرر المحاضرة ودُرر المكاثرة"، وهو الشيخ الإمام المؤرخ تاج الدين علي بن أنجب المعروف بابن الخازن، فإنه قال في كتابه المذكور: قال العُلماء: التاريخ مَعادٌ معنوي؛ لأنه يعيد الأعصار، وقد سلفت، وينشر أهلها، وقد ذهبت آثارهم، وعفت، وبه يستفيد عقول التجارب من كان غرًا، ويلقى آدم، ومن بعده من الأمم، وهلمَّ جرا، فهم لديه أحياء، وقد تضمنتهم بطون القبور، وغُيَّاب، وهم عنده في عداد الحضور، ولولا التاريخ لجُهلت الأنساب، ونسيت الأحساب، ولم يعلم الإنسان أن أصله من تُراب، وكذلك لولاه لماتت الدول بموت زعمائها، وعمّي على الأواخر حالُ قُدمائها.
ولمكان العناية به لم يخل منه كتاب من كتب الله المنزلة، فمنها ما أتى بأخباره المجملة، ومنها ما أتى بأخباره المفصلة، وقد ورد في التوراة سفر من أسفارها، يتضمن أحوال الأمم السالفة ومُدد أعمارها.
وكانت العرب على جهلها بالقلم وخطه، والكتاب وضبطه، تصرف إلى التواريخ جُلّ دواعيها، وتجعل لها أوفر حظّ من مساعيها، وتستغني بحفظ قلوبها عن حفظ مَكتوبها، وتعتاض برقم صدورها، عن رقم مسطورها، كل ذلك عناية باخبار أوائلها، وأيام فضائلها، فهل للإنسان إلا ما أسّسَه وبناه، وهل البقاء لصورة لحمه ودمه لولا بقاء معناه. انتهى.