ومن جملة التشنيعات في حق الإمام، رضي الله تعالى عنه، قول بعض الحُسَّاد: إنه كان قليل الرواية، وليس له إحاطة بكثير من الأحاديث والآثار، كغيره من مُجتهدي عصره، ومن تأخَّر بقليل عنهم.
والجواب عن ذلك هو المنع؛ بدليل أن أبا حنيفة، رضى الله تعالى عنه، كان أكثر الناس تفريعًا للأحكام، ووضعًا للمسائل، وكثرة الفروع تدلّ على كثرة الأصول، وصحتها على صحتها، وقد سلموا أن أبا حنيفة أقوى في القياس من غيره، وأعرف به من سواه، وإنما يُقاس على الكتاب والأثر، كثرة قياسه في المسائل تدلُّ على كثرة اطلاعه على الأثار، كثرة إحاطته بها.
وإنما قلَّت الرواية عنه لما ذكرناه سابقًا، من كونه كان يشترط في جواز الرواية حفظ الراوي لما يرويه من يوم سمعه إلى يوم يُحدث به، ولأنه صاحب مذهب، نصب نفسه لتدوين الفقه، وإثبات الأحكام، وتفقيه الناس وإفتائهم، وهذا لا يدل على أن ما كان يرويه عن غيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم كان قليلًا؛ لأن صاحب المقالة والمذهب، إذا أنهى إليه الخبر، أخذ حكمه المشتمل عليه، فدوَّنه، وأثبته عنده، وجعله أصلًا ليقيس عليه نظائره؛ فمرة يفتي بحكمه، ولا يروى الخبر، فيخرجه على وجه الفتوى، فيقف لفظ الخبر، وينقطع عنده، وكذا فعل أكثر فقهاء الصحابة، كالخلفاء الأربعة، وعبد الله بن مسعود، وزيد، ويخرجها، من فقهاء الصحابة، رضي الله عنهم.
ويدلك على هذا، أن الخلفاء الأربعة صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من مبعثه إلى وفاته، وكانوا لا يكادون يُفارقونه في سفر ولا حضر، وكذلك عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعمَّار بن ياسر؛ وأبو هريرة أكثر رواية منهم، وإنما صحب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر مما سمع هؤلاء،