أولى وأصوب، وإلى الحثّ أقرب والقلوب إليه أسكن، وبه أطيب من مذهب من انفرد، فوضع مذهبه بنفسه، ويرجع فيه إلى رأيه، وطريقة أبي حنيفة في تفقيه أصحابه أنه كان عند مدارسته المسائل مع أصحابه يذكر احتمالا في المسألة، فيؤيده بكلّ ما له من حول وطول، ثم يسائل أصحابه أعندهم ما يعارضونه به، فإذا وجدهم مشوا على التسليم بدأ هو بنفسه ينقض ما قاله أولا بحيث يقتنع السامعون بصواب رأيه الثاني، فيسائلهم عما عندهم في الرأي الجديد، فإذا رأى أنه لا شيء عندهم أخذ يصور وجها ثالثا، فيصرف الجميع إلى هذا الرأى الثالث، وفي آخر الأمر يحكم لأحدها بأنه هو الصواب بأدلة ناهضة، وهذه طريقة في التفقيه، امتاز بها أبو حنيفة وأصحابه، كما نجد شرح ذلك في "التأنيب" زيادة على ما هنا، فأبو يوسف نشأ في العلم في مثل هذه البيئة الممتازة تحت إشراف مثل أبي حنيفة البارع في التفقيه، فصقل عقله، واتسع أفق فقهه، وأثمرت مواهبه، وظهرت مآثره بتوفيق الله جلّ شأنه على أن شيخه الآخر في الفقه محمد بن أبي ليلى القاضي، طال أمد قضائه في الدولتين الأموية والعبّاسية، حيث لم يمكن استغناؤهما على تنافسهما عن خبرته الواسعة في القضاء على طريقة قضاء علي بن أبي طالب رضى الله عنه، وقضاء شريح الممتدّ من عهد عمر رضى الله عنه إلى زمن الحجّاج، فازداد أبو يوسف علما وعملا بأحكام القضاء بما تلقّاه من ابن أبي ليلى، هذا من أحكام القضاء التي ورثها من قضايا علي وشريح، فيظهر من ذلك أن العلم كان ميسّرا له من كلّ النواحي، وكل ميسّر لما خلق له.
[حافظته القوية وذكاؤه البالغ]
ذكر أبو الفرج بن الجوزي أبا يوسف في "جزئه" في المائة الأفذاذ من حفّاظ هذه الأمة من جهة قوة الحفظ مطلقا، غير مقتصر على حفظ