وروَى الخطيب، عن إسحاق بن إبراهيم، أنه قال: كان أصحاب أبي حنيفة، رضي الله تعالى عنه، الذين يُذاكِرونه؛ أبو يوسف، وزُفَر، وداود الطَّائِيُّ، وأسَد بن عمرو، وعافية الأوْدِيّ، والقاسم بن مَعْن، وعلي بن مُسْهِر، ومَنْدَل وحِبَّان، ابنا عليِّ، وكانوا يخوضون في المسألة، فإن لم يحضُر عافيةُ، قال أبو حنيفة، رضي الله تعالى عنه: لا تَرْفعوا المسألة حتى يحضُرَ عافيةُ. فإذا حضر عافيةُ، فإن وافقهم، قال أبو حنيفة، رضي الله تعالى عنه: أثْبِتُوها، وإن لم يُوافقْهم، قال أبو حنيفة: لا تُثْبِتوها.
وقد كان المهدِيُّ أشْرَك في القضاء بينه وبين محمد بن عبد الله بن عُلاثَةَ الكِلابِيّ، فكانا يقْضيان جميعا في المسجد الجامع في الرُّصافة، هذا في أدْناه وهذا في أقصاه، وكان عافيةُ أكثرَهما دخولا على المهدِيِّ.
وحدَّث إسماعيل بن إسحاق القاضي، عن أشياخه، قال: كان عافية القاضي يتقلَّد للمهدِيّ القضاء بإحدى جانِبِيْ "بغداد"، مكانَ ابن عُلاثَة، وكان عافية عالما زاهدا، فصار إلى المهدِيِّ في وقت الظهر في يوم من الأيَّام، وهو خالٍ، فاسْتأذَن عليه، فأدخله فإذا معه قِمَطْرُه، فاستَعْفاه من القضاء، واسْتأْذَنه في تسليم القِمَطْرِ إلى من يأمُرُ بذلك، فَظَنَّ أن بَعضَ الأولياء قد غضَّ منه أو أضْعَفَ يدَه في الحُكْم، فقال له في ذلك، فقال: ما جرى من هذا شيء. فقال: فما سببُ اسْتِعْفائِك؟ فقال: كان يتقدَّم إليَّ خَصْمان مُوسران وَجيهان منذ شهرين، في قضيّة مُعْضِلَة مُشْكِلَة، وكلُّ يدَّعِي بَيِّنَة وشُهودا، ويُدْلِي بِحُججٍ تحتاح إلى تأمُّل وتثَبُّب، فردَدْتُ الخصومة، رجاءَ أن يَصْطلحا، أو يَعِنَّ لي وجه فصل ما بينهما. قال: فوقف أحدُهما من خبري على أنِّي أُحِبّ الرُّطَب السُّكَّر، فعَمد في وقتِنا، وهو أوَّل أوقات الرُّطَب، إلى أن جمَع رُطبا سُكَّرا، لا يتهَيَّأ في وقتنا جَمْعُ مثلِه إلى أمير المؤمنين، وما رأيت أحسنَ منه، ورَشَا بَوَّابِي جملةَ دراهم، على أن يُدْخَلَ الطَّبَق إليَّ، ولا يُبالِي أن يُرَدَّ، فلمّا أُدْخِل إليَّ، أنْكَرتُ ذلك، وطَرَدْتُ بَوَّابِي، وأَمَرْتُ بردِّ الطَّبَق، فرُدَّ، فلمّا كان اليوم تقدَّم إليَّ مع خصْمِه، فما تساوَيا في قلبِي ولا في عينِي،