وصار بلاط الملك يسخر فيه من شعائر الدين سرا وجهرا، وإذا رددنا تصريحات الملا عبد القادر البدايوني على أنها من عالم متزمّت، فإن هناك شواهد قطعية على أن حرمة الإسلام وعظمته وكرامته كانت قد زالت عن نفس الملك أكبر، وقد جمع أبو الفضل أقواله في "آئين أكبري"، فقد ورد فيه في غير موضع كلمة كيش أحمدي الملة الأحمدية في سياق السخرية من الفقه الإسلامي، وما أصدق من قال: الناس على دين ملوكهم، فقد أثر ضلال الملك في حياة عامة الناس، حتى إن المدارس والزوايا لم تسلم من تأثيراته السامة، ففصل الصوفيةُ الشريعةَ عن الطريقة، وأوجدوا مبرّرات لأفعالهم غير الشرعية، واتخذ علماء السوء الفقه عرضة لأهوائهم المتوجّهة إلى الاحتيال، وبدأ عهد من الاحتيالات، حتى قال البدايوني: تخجّل منها حيل بني إسرائيل.
رجع الشيخ المحدّث في هذا الوضع المؤلم من "الحجاز" إلى "الهند"، وكان قبل أربع سنوات ودّع "الهند" متبرّما ومستاء من الوضع نفسه، لكن حاله تغيّرت الآن، فما كان يقدر آنذاك على مدافعة هذه الضلالات، فتملّكه اليأس والتبرّم، ولكن الآن تحدّد منهج عمله، وكان صدره الآن يحتوى على ثروة، لا تفني من العلوم الدينية، فجعلها سلاحا للقضاء على هذه الفوضى الدينية.
رجع الشيخ عبد الحق من "الحجاز"، فجلس للتدريس، وكانت هذه هى المدرسة الأولى في شمالي "الهند" في ذلك العهد، ارتفع منها صوت الشرع والسنّة، وكان منهجها التعليمي مختلفا عن المدارس الأخرى اختلافا تاما، فكان القرآن والحديث في هذه المدرسة قطب الرحى، الذي تدور حوله سائر العلوم الدينية، وكان ينشد البيت الفارسي الشهير، الذي معناه: أنا عبد للشمس، فلا أتحدّث إلا عن الشمس، لست بليل، ولا عابد ليل، حتى أتحدّث عن المنام والرؤيا.