أحد من عُدَّ من التابعين، إمام المجتهدين بلا نزاع، أول من فتح باب الاجتهاد بالإجماع، لا يشك من وقف على فقهه، وفروعه، في سعة علومه، وجلالة قدره، وأنه كان أعلم الناس بالكتاب والسنة، لأن الشريعة إنما تؤخذ من الكتاب والسنّة، ومن كان قليل البضاعة من الحديث فيتعين عليه طلبه وتحمله، والجِدُّ والتشمير في ذلك، ليأخذ الدين من أصولٍ صحيحة، ويتلقَّى الأحكام عن صاحبها المبلغ لها.
وقد أجمع الناقلون عنه من أهل الأصول وأهل الحديث أنه يقدم الحديث الصحيح على القياس المعتبر، نعم لم يكن هو رضي الله عنه من المكثرين كسائر الأئمة، وليس من شروط الإمامة والاجتهاد الإكثار في الرِّواية، لأن الاجتهاد إنما يتوقف على حفظ السنن، وتحملها، لا على أداءها وتبليغها.
فالصِّدِّيق رضي الله عنه إمام الصحابة، وأفقههم، وأحفظهم، لا يشك فيه مسلم: لم يكثر، وإنما رَوَى أحاديث معدودة، وإمامُ المحدثين بالإجماع إمام الأئمة وإمام دار الهجرة مالك رضي الله عنه، لم يصحَّ عنده إلا ما في (كتاب الموطأ)(١)، فهل يقول قائل فيه شيئًا.
ونحن لا ننكر أن في السنن سُننًا لم تبلغ الإمام أبا حنيفة، أو بلغتْه ولم تثبتْ عنده صحتُها، لكن هذا أمر لا يمسّ شأنَ المجتهد، وقد كان عُمر رضي الله عنه، يرى رأيا ثم تبلغه السنة، فيرجع، مع أنه ثبت عند أهل العلم بالأثر أن عمر أفقه الصحابة - بعد أبي بكر -.
ثم الطاعنون فيه كانوا يقرذون بإمامته وتقدمه من حيث لا يدرون. كانوا يَرمونه بالرأي، وليس الرأي في سلفنا إلا قُوَّةُ الاطّلاع على معاني النصوص
(١) يعني إذا قصرنا النظر على ما دَوَّنه في "الموطأ". عبد الفتاح.