فكانوا يرتحلون إلى بلاد نازحة، ويجوبون مسافات شاسعة لحديث واحد، متجمّشين في سبيله وعثاء السفر المديد، مقاسين طوعا كآبة الفراق الطويل. ووفقا لهذه السنّة الميمونة وديدن العلماء الماضين تحرّى الشيخ رغم قلة العون وفداحة العوائق ووهاء الوسائل وضراوة الظروف - أن يضرب في الأرض، ويجيف خيله للدراسات العليا، حتى يخبو أوار نهامته في العلوم وتخمد سورة غليله لها، ويشرف له صرف ساعات من حياته النفيسة في مجالسة العلماء الأتقياء الأخيار، الذين تجرّدوا من أثواب المطامع والرغبات، وربئوا بأنفسهم عن سفاسف هذه الحياة الفانية، وازدادوا من ربّهم زلفى، فغادر وطنه المألوف إلى بلاد "الهند" عام ١٣٤٣ هـ، وشيّعه أقرباؤه وأخلاؤه، وودّعه أساتذته النبلاء، وأعينهم تفيض من الدمع حزنا وأسفا، وقلوبهم مكلومة موحشة بفقدانه.
وغبّ أن ألقى مراسيه بـ "ديوبند" التحق بأزهر الهند دار العلوم بيسر وسهولة، وتوفّر له من مرافق الحياة ما يفتقر إليها دون تعب ونصب، ولكن لم يتح له الحظّ ما أراده، ولم يعِنْه عليه، بل عاقه عن إحراز هدفه المنشود، وأمله الممدود، حيث دهاه السقم وأضناه، واجتوى البلد، ففرّ منه إلى مدرسة مظاهر العلوم بـ "سهارنفور".
ما كل ما يتمنّى المرء يدركه … تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.
وظلّ يتدرس فيها الفقه والفلسفة عاما كاملا، جاثيا على كبتيه، متلمّذا أمام أفذاذ عصره، وحذّاق دهره في صنوف الفنون، واستقى في غضون ذلك من مناهلهم العذبة الصافية، كأمثال الشيخ عبد الرحمن الكاملبوري، والشيخ عبد اللطيف، تغمّدهما اللَّه بغفرانه، وأسكنهما بحبوحة جنانه.
ورغم أن لاءمت الظروف هناك، وتمهد السبل كلّها لمواصلة السير نحو المرام لم ترم نفسه تتوق، وتصبو إلى دار العلوم بـ "ديوبند"، ويلتاع قلبه شوقا