للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

بـ "دِمَشْق" المحروسة، ثمَّ نقل إلى قَضَاء "بروسه"، ثمَّ صَار قَاضِيا بالعسكر الْمَنْصُور فِي ولَايَة "أناطولي" المعمورة، فوفى حُقُوقه بِرَأْيهِ الرصين، ودام عَلَيْهِ مُدَّة سِتّ سِنِين.

ثمَ عزل لأمر يطول بَيَانه، وَيُورث الكسل شَرحه وتبيانه، وَحَاصِله صِيَانة أَمر دينه الخطير، وَمُخَالفَة الْوَزير الْكَبِير، وَعين لَهُ كل يَوْم مائَة وَخَمْسُونَ درهما على حسب الْعَادة، وإن كَانَ خليقا بِالزِّيَادَةِ، فَلَما وصل عمر هَذَا الْعرنِين إلى حُدُود السِّتين، غاله أجله، وانصرم عمله، فَحزن بِمَوْتِهِ كل شرِيف ووضيع، وطفل ضَرِيع، وبكاه الْبعيد بكاء الْقَرِيب، كأنه للنَّاس حميم أَوْ نسيب، واشمأز أخلاط، فتمثلت بقول الشَّاعِر:

أجرى المدامع بِالدَّمِ المهراق … خطب أقام قِيَامه الإماق

إن قيل مَاتَ فَلم يمت من ذكره … حَيّ على مر اللَّيَالِي بَاقِي

وَذَلِكَ فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من رَمَضَان من شهور سنة خمس وَخمسين وَتِسْعمِائَة، وَكَانَ الْمولى المرحوم طودا من المعارف والعلوم، كاشف معضلات الْعُلُوم الْمَشْهُورَة، رَافع أستار الْفُنُون المستورة.

لَهُ فِي الْعَرَبيَّة أيد، يقصر عَنْهَا بَاعَ أبي عبيد، لَو طلع بغرته الغراء لفرّ من بَين يَدَيْهِ الْفراء، وَلَو رَأَيْت فِي الْفِقْه أبكار أفكاره اللطيفة لحكمت بأنه مُحَمَّد أوْ أبو حنيفَة، وَالْعجب أنه مَعَ ذَلِك الْفضل الباهر والتقدم الظَّاهِر لَيْسَ فِيهِ رَائِحَة عجب، وتيه حُلْو الفكاهة طيب المعاشرة، أبو المعارف أخو مكاشرة.

وَكَانَ رَحمَه الله عالي الهمة، عَظِيم الشأن، يرى إحسانه كل قاص ودان، يغبطه الْغَيْث على نواله، وينسج الْبَحْر على منواله، لم تَجِد رَاحَته بِدُونِ الْمَعْرُوف رَاحَة، حَيْثُ جبل على الْكَرم والسماحة، وَكَأَنَّهُ وجد الخيار لنَفسِهِ فِي خلقه، فَمن السخاء تَكُونَا، وإذا أخذ فِي العذل أقاربه وَمن يصاحبه، ويقاربه، يلاطفهم فِي الْجَواب، ويخاطبهم بِهَذَا الْخطاب:

<<  <  ج: ص:  >  >>