ثم قدم "القاهرة" وهو شابّ، ونزل بقاعة "الشيخونية" وقرأ على إمامها خير الدين سليمان بن عبد الله، وغيره، ونسخ بالأجرة مدّة، واشتغل.
ثم انقطع عن الناس، فلم يكن يجتمع بأحدٍ، بل اختار العزلة، مع المواظبة إلى الجمعة والجماعات، ويبكر إلى الجمعة بعد اغتساله لها بالماء البارد صيفًا وشتاء، ولا يكلّم أحدًا في ذهابه وإيابه، ولا يجترئ أحدٌ على الكلام معه، لهيبته ووقاره، وتورّع جدًّا، بحيث إنه لم يكن يقبل من أحد شيئًا، ومتى اطّلع على أن أحدًا من الباعة حاباه؛ لكونه عرفه لم يعد إليه؛ وللخوف من ذلك كان يتنكر، ويشتري بعد العشاء الآخرة قوت يومين أو ثلاثة، وأقام على هذه الطريقة أكثر من ثلاثين سنة، وكراماته كثيرة، ولم يكن في عصره مَنْ يُدانيه في طريقته.
قال العيني: وثبت بالتواتر أنه أقام أكثر من عشرين سنة، لا يشرب الماء أصلًا، وكان يقضي أيامه بالصيام، ولياليه بالقيام.
مات في ليلة الأربعاء، ثاني شهر ربيع الأول، سنة ثلاثين وثمانمائة، وصلّى عليه العيني، وكان الجمع في جنازته موفورًا، مع أن أكثر الناس كان لا يعرفه، ولا يعلم بسيرته، فلمّا تسامعوا بموته هُرِعُوا إليه، ونزل السلطان من القلعة، فصلّى عليه بـ "الرميلة" وأعيد إلى الخانقاه، فدفن بجوار الشيخ أكمل الدين، وحمل نعشه على الأصابع، وتنافس الناس في شراء ثياب بدنه، واشتروها بأغلى الأثمان، فاتفق أنه حسب ما اجتمع من ثمنها، فكان قدر ما تناوله من المعلوم من أول ما نزل بالخانقاه، وإلى أن مات، لا يزيد ولا ينقص، وعُدّ هذا من كراماته، رحمه الله تعالى.