وكان يتردّد إلى القضاة الواردين إلى "مصر"، يستقي ما عندهم من العلوم، حتى أصبح واحد عصره في تحقيق المسائل، وتدقيق الدلائل بحيث يرحل إليه أهل العلم من شتى الأقطار، ليستمتعوا بغزير علومه، على اختلاف مسالكهم ومذاهبهم، وكانوا يتعجبّون جدّا من سعة دائرة استبحاره في شتى العلوم.
قال ابن زولاق في "قضاة مصر": حدّثنى عبد الله بن عمر الفقيه، سمعت أبا جعفر الطحاوي، يقول: كان لمحمد بن عبدة القاضى مجلس للفقه عشية الخميس، يحضره الفقهاء وأصحاب الحديث، فإذا فرغ وصلّى المغرب انصرف الناس، ولم يبق أحد إلا من تكون له حاجة، فيجلس، ففي ليلة رأينا إلى جنب القاضي شيخا، عليه عمامة طويلة، وله لحية حسنة، لا نعرفه، فلمّا فرغ المجلس، وصلى القاضى التفت، فقال: يتأخّر أبو سعيد، يعني الفارابي، وأبو جعفر وانصرف الناس، ثم قام يتركّع، فلمّا فرغ استند، ونصبتُ بين يديه الشموع، ثم قال: خذوا في شيء، فقال ذلك الشيخ: أيش روى أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أمّه عن أبيه؟ فلم يقلْ أبو سعيد الفارابي شيئا، فقلت أنا: حدّثنا بكّار بن قتيبة، ثنا أبو أحمد، ثنا سفيان، عن عبد الأعلى الثعبي، عن أبي عبيدة بن عبد الله، عن أمه، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله ليغار للمؤمن فليغر"، قال: فقال لي ذلك الشيخ: أتدري ما تتكلّم به؟ فقلت أيش الخبر؟ فقال لي: رأيتك العشمية مع الفقهاء في ميدانهم، ورأيتك الساعة في أصحاب الحديث في ميدانهم، وقلّ من يجمع ما بين الحالتين. فقلت: هذا من فضل الله وإنعامه، فأعجب الفريابي القاضي في وصفه لي، ثم أخذنا في المذاكرة. اهـ.