وأبو سعيد هذا هو محمد بن عقيل يعدّ في كبار فقهاء الشافعية من أصحاب المزني، ولم يكنْ يسعه غير السكوت أمام الطحاوي، المستبحر في العلوم، وبهذا العلم الواسع تمكّن من تأليف كتب، لا نظيرَ لها بين مؤلّفات أهل عصره، وكان الحامل له على استجماع الروايات ما لمس في منهجه الجديد من الحاجة الماسّة في استعراض جميع ما ورد في كلّ موضوع فقهي، من خبر مرفوع، أو موقوف، أو مرسَل، أو أثر من السلف، أو رأي منهم، بأسانيد مختلفة المراتب، ليستخلص من بينها الحقّ الصراح، لأن مَنْ قصر في جمع الرواية، واكتفى بخبر يعدّه صحيحا لا يكون وفي العلم حقّه، لأن الروايات تختلف زيادة ونقصا، ومحافظة على الأصل، ورواية بالمعنى واختصارا، فلا يتحصّل طمأنينة في قلب الباحث، إلا باستعراض جميعها، مع آراء فقهاء الصحابة والتابعين، ومن بعدهم، فيتمكّن بذلك من ردّ المردود، وتأييد المقبول. وهذا ما فعله الطحاوي في كتبه، وقد أهّله علمه الواسع لحمل هذه الأعباء المضنية بمقدرة فائقة، أثارتْ نفوس بعض المخالفين، فتقولوا عليه، فازداد رفعة عند الله وعند الناس، ولولا هذه الهمّة القَعْسَاء عنده لكان في إمكانه أن يكتفي بكتاب من كتب الصحاح، أو السنن، فيعكف عليه وحدَه، ظانّا أنه هو العلم كلّه. لكن مواهبه أبتْ إلا هذا الاعتلاء. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وزيادة على هذا له منهج حكيم في ترجيح الروايات بعضها على بعض، من غير اكتفاء بنقد رجال الأسانيد فقط، وهو دراسة الأحكام المنصوصة وتبيين الأسس الجامعة لشتى الفروع من ذلك، فإذا شذ الحكم المفهوم من رواية راو عن نظائره في الشرع يعدّ ذلك علّة قادحة في قبول الخبر، لأن الأصل الجامع لشتى الفروع والنظائر في حكم المتواتر وانفراد راو