ثم صرتُ قاضيا بمدينة "بروسه" في اليوم السادس والعشرين من شهر رمضان المبارك لسنة اثنتين وخمسين وتسعمائة فيا ضيعة الأعمار، ثم صرتُ مدرّسا بإحدى المدارس الثمان ثانيا في اليوم الثامن عشر من شهر رجب المرجّب لسنة أربع وخمسين وتسعمائة، ونقلتُ هناك "صحيح البخاري"، وأتممتُه، ودرستُ هناك "كتاب الهداية" من كتاب الشفعة إلى آخر الكتاب، ودرستُ هناك أيضًا "كتاب التلويح" من أوله إلى التقسيم الرابع، ودرستُ هناك أيضًا "حواشي الكشّاف" للسيّد الشريف إلى أن وصلتُ إلى أثناء سورة الفاتحة، ثم صرتُ قاضيا بمدينة "قسطنطينية" في اليوم السابع عشر من شهر شوّال المكرّم لسنة ثمان وخمسين وتسعمائة، واخترمتُ أشغال القضاء ما كنتُ عليه من الاشتغال بالعلم الشريف، كان ذلك في الكتاب مسطورا، وكان أمر الله قدرا مقدورا.
ثم وقعتْ لي في اليوم السابع عشر من شهر ربيع الأول لسنة إحدى وستين وتسعمائة عارضة الرمد، ودام ذلك شهورا، وأضرّتْ بذلك عيناي، وأرجو من الله تعالى سبحانه أن يعوّضني منهما الجنة على مقتضى وعد نبيه صلى الله تعالى عليه وسلّم.
ثم إن الله تعالى قد وفّق هذا العبد الضعيف في أثناء اشتغاله بالعلم الشريف لبعض التصانيف من التفسير وأصول الدين وأصول الفقه والعربية، وأيضا من الله سبحانه علي بحلّ بعض المباحث الغامضة وتحقيق المطالب العالية، وكتبتُ لكلّ منها رسالة ومجموعها ينيف على ثلاثين إلا أن صوارف الأيام بتقدير الملك العلام قد اخترمتها، ولم يتيسّرْ لي تبييضها، هذا ما منحني الله تعالى من العلوم والمعارف، وما قسمه الله لي بحسب استعدادي الفطري، وفوق كلّ ذي علم عليم، وليس هذا والعياذ بالله تعالى ادّعاء للعلم والفضيلة، بل ائتمار لقوله تعالى: وأما بنعمة ربّك فحدّث، فليكن هذا آخر الكتاب،