وأما سَجيته الشعرية، ونظمه في القصائد الطنانة، وغوصه على استخراج الجواهر المضية، من أصداف الألفاظ الدرية، فإنه يبهر العقول، ويحير الألباب، ويأتي بالعجب العُجاب، والحال أنه ما اتهم ولا أنجد، ولا غور ولا أصعد، ولا عاشر الأعراب في بواديها، ولا قارضهم الأشعار في حاضرها ولا باديها، ولكنه فضل الله تعالى يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
وإن شاء الله تعالى، نسوق في آخر الترجمة من أشعاره وإنشائه، ما يفوق الماء الزلال، ويُعد من السحر الحلال.
ثم بعد أن أقام في الاشتغال بالمدرسة المذكورة، ما تقدّم ذكره من المدّة المزبورة، وجه له قضاء "أدرنة" المحروسة، التي تعد من جملة أمّهات المدن، وكراسي السلاطين من آل عثمان، أدام الله تعالى دولتهم إلى آخر الزمان، في أول شهر من شهور سنة أربع بعد الألف، أحسن الله ختامها، وهذه الرعاية التامة، بهذه الولاية من التدريس المذكور، ما حصلت لأحد من أبناء الموالي في هذه الأيام، ولم يكن إعطاء هم له ذلك لأجل خاطر والده شيخ الإسلام فقط، بل له ولما حواه من الفضائل الكاملة، والفواضل الشاملة، لما أنعم الله تعالى به عليه من العقل، واللطف، والرفق، والشفقة، والرحمة، وحسن التدبير، والفكر الثاقب، والرأي الصائب، ولكونه ممن يستحق أن يوصف بقول أبي الطيب المتنبي، بل هو أحق به ممن قيل في حقه:
قاضٍ إذا اشْتَبَهَ الأَمْرَانِ عَنَّ له … رَأْيٌ يُفَرَّقُ بينَ الماءِ واللبنِ
ولما خرج مُتوجهًا إلى مدينة "أدرنة" المذكورة، خرج معه لتوديعه وتشييعه من أرباب الدولة، وأكابر "الديار الرومية"، ومواليها، وعلمائها، وفضلائها، ما لا يعد كثرة، وكان من جملتهم قاضي القضاة، المعروف كل منهما في الدولة العثمانية بقاضي العسكر، أحدهما قاضي العسكر بولاية "روميلي"، والآخر بولاية "أناطولي".