ولما وصل بالصحة والسلامة إلى مدينة "أدرنة"، فرح أهلها بقدومه، واستقبلوه إلى مسافة بعيدة عن المدينة، سرورًا بذلك لما كانوا يسمعون عنه، من اتصافه بالأخلاق الحميدة، والآراء السديدة، ولما بلغهم عنه أيضًا من الثقات، أنه يقول: لا بد أن أسألك طريق العدل والإنصاف، وأساعد الفقراء والمساكين بحسب الطاقة، ولا أدع أحدًا من أتباعي يمد يده إلى شيءٍ بن أموال الناس، وغير ذلك من الوعود الجميلة، والنية الصالحة، وقد أنجزوا وعده، وحفظ عهده، وسار فيهم سيرة شُريحية، بفطنة إياسية، حتى فاق الأقران، وأربى في سائر الفضائل على غالب من تقدّمه في الزمان.
ولما سافر السلطان الغازي محمد خان، نصره الله تعالى، إلى بلاد الكفّار الفجّار، بولاية "الألمان"، مرّ في طريقه على مدينة "أدرنة"، فوجد أهاليها شكر منه، داعين له، راضين عنه، فأقبل عليه غاية الإقبال، وجلس لأجله مجلسًا خاصًا لا يشركه فيه أحد، للسلام عليه، والتشرف بتقبيل يديه، فبمجرد نظرة إليه، قام له على قدميه، وعظمه، وبجله في الدخول والخروج، أكثر من تعظمه لقضاة العسكر، بل ولمن هو أكبر منهم.
ثم اقتضى رأيه الشريف، أن يكرمه ويراعيه، بما يليق من المناصب السنية، والمراتب العلية، ففوّض إليه قضاء دار السلطنة البهية، "قسطنطينية" المحمية، صانها الله تعالى عن كل آفة وبلية، وتوجه إليها مصحوبًا بالسلامة، مؤيدًا بالكرامة، وتأسفت أهالي "أدرنة" على فراقه، وشيعه كثير منهم مقدار مرحلة أو مرحلتين، فبينما هو في أثناء الطريق، إذ ورد عليه خبر بأن والدة سلطان العصر - نصره الله تعالى، وأنعم عليه خاصة، وعلى الناس عامة، بنفوذ الأوامر على كل حال، والاستقلال في مهمات الأمور بتدابير الرجال - قد امتنعت من تنفيذ هذا الإعطاء، وصممت على رد هذه الولاية، وولت فيما يقال: قاضي إستانبول سابقًا، أو أبقته على ما كان عليه، لكون ولدها