وبعد عودته إلى "كشمير" مكث غير بعيد، ثم أخذ عصا التَّسْيار متوجّها إلى المجاورة في البلدة الطيبّة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وقصد في طريقه زيارة شيخه محمود الحسن شيخ جامعة "ديوبند" ليودَّعه، وأنباه بما نوى من المجاورة، فأمره الشيخ بفسخ العزم، وأبرم عليه الإقامة في "ديوبند"، واستلم منه زاد سفره، وزوّد به آخر للحجّ والزيارة.
ولم يكن الشيخ الكشميري يفرِّط في امتثال أمر شيخه، فأقام في "ديوبند" في حدود سنة ١٣٢٥ هـ، وأمره الشيخ بتدريس "صحيح مسلم"، و "سنن النسائي"، و "سنن ابن ماجه"، وفنهض بها على خير وجه، وكانتْ فاتحة تدريسه في أكبر جامعة دينية في "الهند": دار العلوم الإسلامية، واستمرّ على ذلك إلى سنة ١٣٣٢ هـ.
ثم أراد شيخه السفر إلى الحجّ والزيارة في عام ١٣٣٣ هـ، فاستخلفه نائبا عنه في التدريس وصدارة المدرّسين، فأخذ يدرّس "صحيح البخاري"، و "سنن أبي داود"، و "جامع الترمذي"، وغيرها من أمّهات كتب الحديث، وكان من أمر الشيخ محمود الحسن أن أسرته الحكومة البريطانية الغاشمة، لزعامته العلمية والدينية في "الهند"، واحتجزته في جزيرة "مالطة"! فبقى الشيخ الكشميري قائما مقامه، في تدريس كتب الحديث:"صحيح البخاري"، و"جامع الترمذي"، وغيرهما.
وقضى في "ديوبند" ثلث عمره، وجرتْ من قلبه وفمه ينابيعُ الحكمة ومنابعُ العلم والمعرفة، حتى استفاد منها رجال من الأفاضل وأماثل العصر، وتضلّع مَنْ لا يحصى عددا من الأصاغر والأكابر، وتخرّج في تلك الحقبة أكثر من ألفي عالم، ممن قرأوا عليه أمّهات كتب الحديث، وكان الشيخ محطّا للرحال، وكان درسه جامعا للبدائع، تنحلّ فيه مشكلات سائر العلوم.