واعيا لأقوالهم المختلفة الشتيتة، قادرا على اختيار بعضها من بعض ترجيحا، أحاط بالعلوم العقلية والفنون الحكمية الحديثية والقديمة، بالرأي الثاقب والحكم النافذ، كان نقيب العلوم العربية والفنون الأدبية، غائصا في بحارها وغمارها …
جمع الله له من شَمْل الفضائل والفواضل ما تكلّ الألسنة عن تفصيلها، وتَتَلَعْثَم عن بيانها، ويتكفكف سَنَا المِزْبَر عن تسطير جميعها. فآثره الله بالقريحة الوقَّادة، ما خلت القرون عن أمثالها، وأردفه بقوة الحافظة ما بلغ غايةً ليس دونها غاية، حتى علمنا علمَ يقين صحةَ ما أثِرَ لنا من قوّة الحافظة للمحدّثين وسائر السلَف الصالح في العهد الغابر في كتب الطبقات والرجال والتاريخ، بل كأنّا رأيناهم رأيَ العين، فلم تبق لنا ريبة ولا خطرة من الوهم، فقد أبدى الصريحُ لنا عن الرَّغْوَة.
بلغني عن الشيخ الفقيه المحدّث مولانا حسين أحمد المهاجر المدني أنه قال: سمعتُ حضرة الشيخ الكشميري رحمه الله أنه قال: إذا طالعتُ كتابا مرتجلا، ولم أرد ادّخار مباحثه، يبقى في حفظي إلى نحو خمس عشرة سنة.
ثم مع هذه الحافظة وفّق لغزارة المطالعة وسرعتها، بحيث تتحيّر منه العقول، حتى تُطْوَى من بين يديه ذخائرُ من المكنونات العلمية كلّ يوم، حتى سمعت من بعض خواص معارفه: أنه أول ما كان يطالع "مسند أحمد" المطبوع بـ "مصر"، كان يطالع كلّ يوم نحو مائتي صفحة منه، مع غور وإمعان في أسانيده وحلّ مشكلاته.
وسمعتُ من حضرة الشيخ قوله رحمه الله: إني طالعتُ أولا "مسند أحمد"، فلخّصت منه أدلّة الحنفية والأحاديث المفيدة لهم في عدّة أيام، ولكن مع هذه السرعة كان ينقل أحاديثَه أينما احتاج له في المشكلات