أربعين مرّة، وصار لي محفوظًا، وأنا مع ذلك لا أفهمه ولا المقصود به، وأيست من نفسي، وقلت: هذا كتاب لا سبيل إلى تفهّمه، وإذا أنا في يوم من الأيام حضرت وقت العصر في الوراقين، وبيد دلال مجلّد ينادى عليه، فعَرَضه عليّ فرددتُه ردّ متبرّم، فقال: أنه رخيص بثلاثة دراهم. فاشتريته، فإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي في أغراض كتاب "ما بعد الحكمة الطبيعة"، ورجعت إلى بيى، وإسرعت قراءته، فانفتح عليّ في الوقت أغراض ذلك الكتاب، ففرحت، وتصدّقت بشيءٍ يسير، شكرًا للَّه تعالى.
واتفق لسلطان "بخارى" نوح بن منصور مرض صعب، فأجرى الأطبّاء ذكرى بين يديه، فأحضرت وشاركتهم في مداواته، وسألته الإذن في دخول خزانة كتبهم ومطالعتها وقراءة ما فيها من الكتب، كتبها، فأذن لي، ودخلت، فإذا كتب لا تحصى في كلّ فن، ورأيت كتبًا لم تقع أسماؤها إلى كثير من الناس، فقرأت تلك الكتب، وظفرت بفوائدها، وعرفت مرتبة كلّ رجل في علمه، فلمّا بلغت ثمانية عشر عامًا من العمر، فرغت من هذه العلوم كلّها، كنت إذ ذاك للعلم أحفظ، ولكنه معي اليوم انضج، وإلا فالعلم واحد لم يتجدّد لي بعده شيءٌ.
وسألني جارنا أبو الحسين العروضي أن أصنّف له كتابًا جامعًا في هذا العلم، فصنّفت له "المجموع"، وسميته به، وأتيت به على سائر العلوم سوى الرياضي، ولي إذ ذاك إحدى وعشرون سنة.
وسألني جارنا الفقيه أبو بكر البرقي الخوارزمي وكان مائلًا إلى الفقه والتفسير والزهد، شرح الكتب له، فصنفت له كتاب "الحاصل والمحصول" في عشرين مجلّدة، أو نحوها، وصنّفت كتاب "البر والإثم"، وهذان الكتابان لا يوجدان إلا عنده، ولم يعرفهما أحدًا.