وحدك ثم أعرضها علي، لأبين لك. فكم من شكل ما عرفه الرجل إلا وقت عرضته عليه، وفهمته إياه.
ثم سافر، وأخذت في الطبيعي والإلهي، فصارت الأبواب تنفتح عليّ ورغبت في الطبّ، وبرّزت فيه في مديدة، حتى بدأ الأطبّاء يقرأون عليّ، وتعهدت المرضى، فانفتح عليّ أبواب المعالجات النفيسة من التجربة ما لا يوصف، وأنا مع ذلك أختلف إلى الفقه، وأناظر فيه، وعمري ستّ عشرة سنة.
ثم أعدت قراءة المنطق، وجميع أجزاء الفلسفة، ولازمت العلم سنةً ونصفا، وفي هذه المدّة ما نمت ليلة واحدة في بطولها، ولا اشتغلت في النهار بغيره، وجمعت بين يدي ظهورًا، فكلّ حجّة أنظر فيها أثبت مقدّمات قياسية، ورتّبتها في تلك الظهور، ثم نظرت فيها عساها تنتج، وراعيت شروط مقدّماته، حتى تحقيق لي حقيقة الحقّ في تلك المسألة، وكلّما كنت أتحيّز في مسألة، أو لم أظفر بالحدّ الأوسط في قياس، ترددت إلى الجامع، وصليت، وابتهلت إلى مبدع الكلّ، حتى فتح لي المنغلق منه، وتيسّر المتعسّر، كنت أرجع بالليل إلى داري، واشتغل بالكتابة والقراءة، فمهما غلبني النوم، أو شعرت بضعف، عدلت إلى شرب قدح من الشراب، ريثما تعود إلي قوتي، ثم أرجع إلى القراءة، ومهما غلبني أدنى نوم أحلمُ بتلك المسائل بأعيانها.
ثم إن كثيرًا من المسائل اتّضح لي وجوهها في المنام، حتى استحكم معي جميع العلوم، ووقفت عليها بحسب الإمكان الإنساني، وكلّ ما علمته في ذلك فهو كما علمته، لم أزد فيه إلى اليوم، حتى أحكمت علم المنطق والطبيعي والرياضي، ثم عدلت إلى الإلهي، وقرأت كتاب "ما بعد الطبيعة" فما كنت أفهم ما فيه، والتبس عليَّ غَرَض واضعه، حتى أعدت قراءته