ثم بعد ذلك سأله كذلك، فأعاد قوله، وقال: هلا قلت لي: ولم ذلك؟ قال: ويحك ولم ذلك؟ قال: لأنه ليس في أهل بيتي من وطئ بساط أمير المؤمنين وشاهد طلعته غيري. فاستحسن ذلك منه، وولاهُ "بلخ"، فكان يتولى الخُطبة بنفسه.
ثم سأل عن علماء "بلخ". فذكروا له خلف بن أيوب، ووصفوا له علمه وزهده، فتحين مجيئه للجمعة، وركب إلى ناحيته، فلما ترجّل وقصده، فقعد (١) خلفٌ وغطّى وجهه، فقال: السّلام عليكم. فأجاب، ولم يرفع رأسه، فرفع الأمير أسد رأسه إلى السماء، وقال: اللّهم إن كان هذا العبد الصالح يُبغضنا فيك فنحن نُحبّه فيك.
ثم ركب ومرّ، فأخبر بعد ذلك أن خلف بن أيوب مرض فعاده، فقال: هل لك من حاجة؟ قال: نعم حاجتي أن لا تعود إليّ، وإن مت فلا تصل عليّ وعليك السواد.
فلمّا توفي شهد أسد جنازته راجلًا، ثم نزع السواد، وصلّى عليه، فسمع صوتًا بالليل: بِتواضعك وإجلالك لخلف ثبتت الدولة في عقبك.
مات خلفٌ سنة خمس ومائتين، ويقال: سنة خمس عشرة ومائتين. وهو الأصح، وقيل: سنة عشرين ومائتين. واللَّه تعالى أعلم.
ورأيت بخطّ بعضهم على هامش نسخة من "الجواهر المضية" معزوًا إلى شرح الشيخ قوام الدين الإتقاني، ما صورته: ومن زهده -يعني خلف بن أيوب- أنه مرض فأهدى إليه شداد رُمّانة، فوضعها عند رأسه، فقال له: من أين هذه الرمّانة؟ قال: من شجرة في داري. فقال: من أيّ ماء سقيتها؟ فقال: من بئر في سكّتي. فقال: أليس دارك في سكّة كذا؟ قال نعم. فقال: إنه لا يطيب لي، ليس لك من ذلك النهر إلا الشقّة، وليس لك أن تسقي الشجرة. فردّها عليه. انتهى واللَّه تعالى أعلم.