لإنقاذهم، فلما اشتدّت الأمواج المثلثة أرغمتهم على إفلات الزورق، وهنا بدأ الشيخ يغرق، وكان مما دار بخلده عند انقلاب الزورق أن لو كان غرق بعيدًا لكان أجدى من غرقه هنا، حيث يعثرون على جثته، فيترتّب على ذلك إزعاج والده وأهله، فلما بدأ يغرق قال لنفسه: أهكذا الموت غرقًا بهذه السهولة، كنت أظنّه أشدّ من ذلك، ثم غاب عن وعيه -ولم يقف إلّا على طنين في أذنيه، ثم بدأت حواسّه تعود إليه حتى أفاق، ثم ألزمه منقذوه أن يجري حتى لا يهلك مما تحمّله من شدّة البر ومقاومة الأمواج، ومع وجود كثير يعرفونه لم يعرفه أحد إلا بعد مدّة حين تمت إفاقته، وعاد الدم إلى وجهه- وعلم بعد ذلك أن الرجلين اللذين ربطًا الزورق بالحبال كانا في شبابهما ممن يعمل في البحر، ثم أثريا وتركا تلك الصناعة لعمّال تحت أيديهما، فلمّا شاهدا الحادث -واتّفق عدم وجود أحد غيرهما يحسن الإنقاذ- نزلا وربطا الزورق، ولما اضطرت الأمواج المنقذين إلى إفلات الزورق عادا إلى النزول، وأنقذا جميع الغرقى الذين خرجوا أحياء، ولَم يمت أحد منهم، ولله الحمد.
ولما أراد شيخنا مكافاة الأخوين ماديًا -وذلك لأن الرجلين المنقذين كانا أخوين- قيل له: مهما تكافئهما لن تؤثر مكافأتك عليهما، لأنهما من الثراء بمكان عظيم، ولكن لو توسّطت لدى الحكومة، فشكرت لهما هذا الصنيع لكان أجدي، فلمّا عاد إلى "الآستانة" وسط بعض أصدقائه لدى الصدر الأعظم، فأنعم عليهما بنوط، وأشير إلى ذلك لشهامتهما.
وعلم الشيخ أنهم عند إخراجه ظنّوه قد مات، ولكن أحد الشيوخ قال: اعملوا الواجب بأن تضربوه على رجليه، وتستفرغوا الماء منه، إلى آخر ما يعمل لإنقاذ الغرقي، وما هي إلا هنيهة، حتى أفاق، وعاد إليه شعوره، وكان معه عند الغرق مجموعة من أنفس المخطوطات -بلغ الحرص به عليها- أن نقلها معه من "الآستانة" إلى "قسطموني"، ولم يرد تركها