ويجمل بي أن أعرض في هذا المقام للإصلاح الفاسد الذي زعمه الكماليون، وفساده أتى من فصلهم الدين عن الدولة، فالدين الإسلامي كما يعمل كلّ من له أقلّ إلمام به ليس بقاصر على صلاة وصوم، ولكنه دين سياسة وتنظيم للمجتمع، فكتب الفقه تبدأ بالعبادات، ولكنها تشمل المعاملات العامّة والخاصة والعقوبات والحظر والإباحة، وكتب السير تبحث في الحرب وأحكامها، وما يترتّب عليها والغنائمُ، ومعاملة غير المسلمين مع مراعاة حقوقهم وحفظ ذمّتهم، وإجمالًا. أقول: إن الدين الإسلاميّ فيه كلّ ما يراد من تحقيق مجتمع إنساني مثالي سعيد، ولا يطلب فصل الدين عن الدولة، إلا الذي لا يعرف ما هو الدين الإسلامي.
وِمِما لا شَكّ فيه أن هذا الحدث أهم أحداث حياته، فقد انتقل فيه من سِعَة دنيوية فانية إلى ضيق، ولكن العكس حدث فيما يتعلق بالآخرة، وهي خير وأبقي، ففضلًا عن أجر مهاجرته إلى الله ورسوله، فقد انتقل من أفق تركي قاصرة على دولة واحدةٍ إلى أفق عالمي يشمل كل المسلمين -وذلك أن وجوده في "مصر" هيأ له الاتّصال بعلماء الإسلام في كثير من البلاد، وهيأ له حرية القول والتأليف، وهيّأ له أن يكون له تلامذة من مختلف الأجناس والبلدان.
فأما الدنيا فقد غادرها، وقد مضى ضيقها الزائل وعسرها الفاني. وأما الآخرة، فقد قام عليها حيث يلقى جزاء ما أفاد عباد الله، وما علمهم، وما نصح لهم به.
وهكذا ترك هذا العالم الجليل وطنه غضبًا لدين الله، ولو نافق الكماليين لعاش معهم كما عاش سواه، ولكنه فرّ بدينه إلى مستقبل غامض، وتلقفته الأحداث بـ "مصر"، فهو حينًا يعيش من ترجمة الوثائق التركية بدار المحفوظات، وآونة يعيش مما تجريه عليه وزارة الأوقاف من الخيرات، وفي كلّ