الذين حصلوا على إجازات علمية، وأصبحوا علماء، ولكن لم يتزوّجوا، فكان يسكنها كل صالح، وكان لشيخنا صديق من حاشية السلطان وحيد الدين، وكان ذلك الصديق صالحًا ومتألّما لهدم المدرسة، فقال له الشيخ: أخبر السلطان أن السلطان مصطفى لاله لي، وإن عرف عنه أنه كان مجنونًا إلا أنه بنى هذه المدرسة المباركة، وفي زمنه احترق جامع الفاتح، فجدّد بناءه، ووقف عليه خيرات جمّة، وله عدّة أوقاف، وصدقات جارية بـ "الآستانة"، فهدم هذه المدرسة المباركة يكون مشؤومًا خصوصًا، وقد بلغني أن السلطان قال: هذا عمل جدّي، ولا بدّ قبل هدمه من بناء سواه.
والآن أقف برهة أُسائل فيها نفسي كم من علماء الإسلام يستطيع -في سبيل ما يعتقده حقًّا- أن يقف في وجه من بيده أدنى سلطان فضلًا عن الوقوف في وجه (جلالة) السلطان -أظنّ أن العدد يكون قليلًا جدًّا- والكوثري كان من هذا القليل النادر.
وكان مرتّب منصب وكيل الدرس خمسة وسبعين جنيهًا عثمانيا ذهبًا في كلّ شهر، وهو مبلغ طائل في تلك الأيام.
وثالثها: اضطراره إلى مغادرة بلاده فارًّا بدينه، وسبب ذلك أن الأستاذ كان من المستمسكين بدينهم، واستلزم ذلك كراهته الاتحاديين لنزعتهم الإلحادية، فلما ولي الأمر الكماليون، وكانوا أشدّ إلحادًا ولا دينيةً وبغضًا للإسلام وعلمائه، وكلّ ما يتّصل به كما ظهر منهم فيما بعده، فقد رأى أن الخبر في مغادرة البلاد مؤقتًا، حتى تهدأ الفتنة خصوصًا، وقد أخبره بعض المخلصين أن هناك مؤامرة لاعتقاله، فخرج من السوق إلى الميناء دون الرجوع إلى منزله، حيث استقلّ الباخرة من "الآستانة" إلى "الإسكندرية"، كما مرّ في الفصل الأول.