من المولي سيّدي جلبي قلّد التدريس في "مدرسة كقري" بخمسة وعشرين، فتردّد في القبول، فنقل في أثنائه إلى مدرسة إسحاق باشا ببلدة ابنه كول بثلاثين، ولما انتقل عنها قلّد بعد عدّة أشهر مدرسة داؤد باشا بمدينة "قسطنطينية" بأربعين، ثم نقل عنه إلى مدرسة علي باشا بالمدينة المزبورة بخمسين، ولما بنى الوزير مدرسته، التي بقصبة "ككويزه" نقل إليها، ثم نقل إلى مدرسة السلطان محمد بمدينة "بروسه"، ثم نقل إلى إحدى المدارس الثمان.
لم يزلْ يفتح أقفال المشكلات، ويسهل طريق المغضَلات، ويبت كنوز الرموز، يلقى مكامن بحار اللطائف على سواحل الظهور والبروز، ويجيب عن الأسئلة السداد بأجوبة حسان، إلى أن دعى من جانب ربّه إلى رياض الجنان.
وكان ذلك في أوائل جمادى الأولى من شهور سنة اثنتين وثمانين وتسعمائة. وقد حضر جنازته العلماء والوزراء، وسائر أرباب الديون، وخلق لا يحصون كثرة، وشهدوا له بالرحمة والرضوان، وصلى عليه المولى سنان محشّى "تفسير البيضاوي" في جامع السلطان محمد خان، وذهبوا به إلى جوار أبي أيوب الأنصاري، وهم يبالغون في ثنائه، ودفنوا في حظيرة، أعدّها لنفسه وأبنائه.
وله رحمه الله حاشية على "العناية" من أول كتاب البيع من "الهداية"، تسعها عدّة من الكراريس والأوراق، وقد منع الزيادة وكثرة القيود وتواتر الفتوى من الآفاق.
وكان رحمه الله طويل القدّ، خفيف العارضين، غير متكلّف في الطعام واللباس، غير أن فيه نوع مداهنة واكتراث بمداراة الناس، وفيه الميل الزائد، والنعومة إلى أرباب الرياسة والحكومة.