ثمْ بعدَ أن حصَّل من الفضائل ما حصَّل، وأنعم الله تعالى عليه بما أمّل، وصار مدرّسا في مدارس متعدِّدة، أجلُّها قدرا، وأشهرها ذكرا، مدرسة الوالدة بمدينة "اسْكَى دار"، حُمِيَتْ عن البَوار، وهي والدة السلطان مراد خان، - تغمَّدهما الله بالرحمة والرِّضْوان -، حتى إنها كانت أجَلَّ من "السُّليميَّة" والسليمانية وغيرهما من المدارس المنسوبة إلى آل عُثمان، أدام الله تعالى دولتهم إلى آخر الزمان، وكان صاحب الترجمة أجَلَّ من وَليَها من المدرِّسين، وكان يُلْقِي بها الدّروس للخاصَّة والعامة، من غير مانع ولا مُدافع، بخلاف أكثر المدرِّسين بـ "الديار الرومية"، فإن من عادتهم أن لا يُمَكِّنوا أحدا من حضور دروسهم، سوى تلاميذهم المخصوصين بهم، ولم يزَلْ بهذه المدرسة يُفيد الطُّلاب، ويُباحثُ أولِي الألباب، ولا يبخُلُ على أحد بفوائده، والتقاط فرائده، ولا يتكبَّر على أحد في مُباحثة ولا في مُناظرة، وإذا ظهر له الحقُّ سلَّم له، وانْقاد إليه، من غير تعصُّب ولا عناد، كما جرتْ به عادة السَلَف، وعادةُ المنْصِفين من الخَلف.
ثم بعد مدَّةٍ فوَّضوا إليه قضاءَ "بَرُوسة"، ثم قضاءَ "أدِرْنَة"، ثم قضاءَ "إسْتانْبول" بولاية "أناطُولِي"، ثم قضاء العَسْكَر بولاية "رُومِيلِي"، ولم يتخلَّل هذه الولايات عَزْلٌ ولا ما يُوجِب العَزْل؛ لأن سِيْرتَه كانت في الجميع حميدة، وأفعالَه سَديدة، لا يُعْطِي المناصبَ إلا لأهلِها، ولا يَضع الأمورَ إلا في مَحَلِّها، يُقرِّب أصحاب الفضل والكمال، ويُبْعِد أصحاب الجَهْل والضّلال، ويُعَظِّم العُلَماءَ ويرفعُ مَقامَهم، ويُقْبِل عليهم، وينْظُرُ بعين العناية إليهم.
وأما الرِّشوة فما كانت في أيامه تُذكَرُ إلا لتُنْكَرَ، ولا يُسألُ عنها إلا ليُهان مَن يأخذُ منها، وقد وقع الإجماع في سائر البِقاع على أن الله تعالى قد طهَّر منها يدَه ولسانه، وأتْباعه وأعوانه، ولا شكَّ ولا رَيْبَ أن العِفَّة عن الرِّشوة في مثلِ هذه الأيام نعمة كبرى، وسعادة عُظْمَى، قَلَّ من يُوَفَّقُ لها، ويُوصَف بها، وأن أخذَها من كبائر الذنوب، وقبائح العيوب، التي تُوقع في