المهالك وتَخْرِب الممالك، فالحمد لله الذي خصَّه بأحسن الأوصاف، وأنْعَم عليه بجزيل الألْطاف.
ولم يزلْ سالكا في هذه الطريق، مصحوبا من الله تعالى بالتوفيق، إلى أن فرَغتْ المدّة، وانْقَضت العِدَّة، وأصاب السلطانَ عَينُ الكمال، وجاءه مُسْتَوْفِي الآجال، وانتقل بالوفاة إلى رحمة الله تعالى، وجلس على سرير الملْك مكانه، ووَلِيَ خلافته وسُلطانَه، ولدُه الأكبر، وغُصْنُه الأنْضَر، السلطان محمد خان، أدام الله تعالى دَوْلتَه إلى آخر الزمان، ونصْرَه وأيّده على أهل الكفر والطغيان، فأشار عليه بعض ثقاته أن يعزل سائر القضاة والأمراء وأمراء الأمراء، والحُكّام، والعُمّال، وغيرَهم من سائر المناصب، فعمل برأيه، وما أبقَى منهم إلا القليل، وكان صاحب الترجمة ممن شَمِلَه هذا العموم، وتأسَّف الناس على أيامه، وعلى ما فقدُوه من عَدْله في أحكامه، وصاروا يبْتَهِلون إلى الله تعالى، ويسألونه أن يعيد عليهم وِلايتَه.
واستمرَّ مُقيما في منزله، مُكبّا على المطالعة والمراجعة، والتَّقْرير والتَّحرير، والتَّسْويد والتَّبْييض، التأليف والتَّصْنيف، لا يخرج من المنزل إلا إلى جُمعةٍ أو جماعة، أو عيادة مريض، أو زيارة أخٍ في الله تعالى، وكثيرا ما كانوا يسألونه في قَبول ما يختارُه من المناصب الشريفة فلا يقْبل، ويرْمُون عليه فلا يَرْضَى، ويدْفَعُهم بالتي هي أحسن، وكان مع ذلك لا ينْسَى نصيبه من الأمر بالمعروف والنَّهْيِ عن المنكر، بحسب الإمكان.
ومُلَخَّص ما أقوله في حقّه: إنِّي ما رأيت مثلَه في "الديار الرومية"، ولا رأى هو مثلَ نفسه، فنسأل الله تعالى أن يَمُدَّ في أجَلِه، وأن يُعِينَه على فعل الخيرات، وإزالة المنْكرات، بمَنِّه وكرمِه.
وقد مدحته الشعراء، وكاتبتْه الفضلاء، وراسلُوه وراسلَهم، ولولا أنِّي سطَّرتُ هذه الترجمة وأنا على جناح السَّفَر، واشتغال الفكر، لجَمعتُ كثيرا مما مُدِح به، وأُلِّف في الثَّناء عليه، ولكن على كلّ خيرٍ مانع.