بُطْلان الرِّشا، ولا فيه النَّجاح، لتَكْذِيبه وتسْفِيهه، وتَحْمِيقه والردِّ عليه، ولم أرَ في تلك الديار من هو سالم من سائر أنواع النِّفاق، ومن مُداراة أصحاب الظلم والشِّقاق، إلا صاحبَ الترجمة، فللّه دَرُّه، ما أشَدَّه وأصْلَبه، في دين الله تعالى، وما أكثَر تَعْظيمه لشريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولقد بالَغوا في عَرْض الولايات عليه، ووعدُوه بأن لا يُعارضوه في أمرٍ من الأمور، وأن يقْبَلوا نصائحه وشفاعاته، وهو مع ذلك مُصَمِّمٌ على الامتناع؛ لعلْمه بأن أكثَرهم ممن يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فلما قدَّر الله تعالى بوفاة شيخ الإسلام، وقُدْوة الأنام، سعد الدين آفندِي، مُفتِي "الديار الروميَّة"، في عاشر شهر ربيع الأول، سنة ثمان بعد الألف، امتدَّتْ أعْناقُ جماعةٍ من مَوالِي "الديار الروميَّة" لطلب منصب الفتوى مكانَه، وبالغوا في الطلب والسَّعْيِ، وبَذْل الدنيا لمن يُعِينُهم، ويشْفَع لهم، ويُساعدُهم، وصاروا يُبالغوا في وَصْف أنفسهم بالعلم والعَمل، والفضل والكرم، والعدل والإنصاف، وغير ذلك من المحاسن التي ليس فيهم منها قليل ولا كثير، ولا جَليل ولا حقير:
ولسان حال الحقِّ يُنْشِدُ مالَها … إلا إمام العصر صُنْعُ الله
من لم يَخَفْ في الله لَوْمة لائم … وصَنِيعُه لله لا لِلْجاه
فقَبْلَ فَراغهم من دَفْنه، بل ومن الصلاة عليه؛ جاء خطُّ السلطان إلى الوزير الكبير، بتَفْويض منصب الفتوى إليه، من غير تَعَبٍ ولا نصبٍ، لا بذْل فضةٍ ولا ذهبٍ، ولا عهدٍ ولا وعدٍ، بل سمعنا أنه تردّد في القبول وعَدَمه، ولولا أنه رأى القبولَ عليه مُتَعَيِّنا، وأنَّ تركَ المتَعَيِّن، ليس عند الله بِهَيِّن، ما كان يَقْبلُه ولا يُقْبِلُ عليه، فلما حصل القبولُ حصل عند الناس من الفرح والسرور ما لا مزيد عليه، واستبْشَرُوا بإقبال الخيرات، وإدْبار المنكرات، وقيام ناموس الشريعة، وخُمود نار الرِّشوة الفَظيعة، وغير ذلك مما فيه صلاحُ الأئمة، وكَشْف الغُمَّة عن الأمَّة، وما مضى بعدَ ولايته إلا زمنٌ يَسير، حتى عُزِل بعضُ قضاة الجَورِ والرِّشا، ووَلِيَ مكانه بعضُ القضاة الذين يُرْجَى خَيْرُهم، ويُؤْمن ضَرَرُهم