خيرُ الناس بعدَ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، رضي الله تعالى عنهما. ثم خالَف المأمون في مَحَبَّته مذهبَ الصَّحابة كلِّهم، حتى عليِّ بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
قال: وقد أضاف المأمون إلى بِدْعته هذه التي أزْرَى فيها على المهاجرين والأنصار وخالفَهم، تلك البدعةَ الأخْرَى، والطَّامَّة العُظْمَى، وهي القولُ بخلق القرآن، مع ما فيه من الانهِماك على تَعاطِي المسْكِر، وغير ذلك من الأفعال التي تَعَدَّد فيها المنْكِرُ، ولكن كان فيه شهامةٌ عظيمةٌ، وقوةٌ جسيمةٌ، وله هِمَّةٌ في القتال، وحِصار الأعداء، ومُصادرة الرُّوم وحَصْرِهم في بُلْدانهِم، وقَتْلِ فُرْسانهِم، وأسْرِ ذَرارِيّهم ووِلْدانهِم.
وكان يقول: معاويةُ بعَمْره، وعبدُ الملك بِحَجّاجِه، وأنا بنفسى.
وكان يقصد العدل، ويتولى بنفسه بين الناس الفصل، جاءته امرأة ضعيفة، فتظلمت من العبّاس، وهو واقفٌ على رأسِه، فأمر الحاجبَ فأخذ بيده، فأجْلَسَه معها بين يديه، فادَّعتْ عليه أنَّه أخذ ضَيْعَةً لها، واسْتَحْوَذَ عليها، فتناظَرَا ساعةً، فجعل صَوْتُها يعْلُو على صوتِه، فزَجَرها بعضُ الحاضرين، فقال له المأمون: اسْكُتْ فإنَّ الحقَّ أنْطَقَها، والباطِلَ أسْكَتَه، ثم حكم لها بَحَقِّها، وألْزَمَ لها ولَدَه بعشرة آلاف درهم.
وكتب إلى بعض الأمَراء: ليس من المروءة أن يكونَ آنِيَتُك من ذهبٍ وفِضَّةٍ، وغَريمُك عارٍ، وجارُك طاوٍ.
ووقفَ رجلٌ بين يدَيْه، فقال له: والله لأقْتُلَنَّك. فقال: يا أمير المؤمنين! تأنَّ عليَّ، فإنّ الرِّفْقَ نصفُ العَفُو. فقال: وَيْحَك، كيف وقد حلفتُ لأقْتُلَنَّك؟ فقال: يا أمير المؤمنين! لأنْ تَلْقى الله حانثًا، خيرٌ من أن تلْقاه قاتلًا، فعفا عنه.
وكان يقول: ليتَ أهلَ الجرائم يَعْرفون مذهبي في العَفْو، حتى يذهَب الخوفُ عنهم، ويَدْخُلَ السُّرورُ على قلوبهم.