وقدم عليه، وهو "دمشق" مالٌ جزيل بعد ما كان قد أفْلس، وشكا إلى أخيه المعتصم ذلك، فورَد عليه خَزَائنُ من "خُراسانَ" فيها ثلاثون ألفَ ألفٍ، فخرج يسْتَعْرِضها، وقد زُيِّنت الجِمالُ والأجمال، ومعه يحيى بن أكْتَم القاضي، فلمّا دخلت البلدَ، قال: ليس من المروءة أن نَحُوزَ هذا كلَّه والناسُ ينْظُرون. ثم فرَّق منه أربعة وعشرين ألفَ ألْفِ درهم، ورِجْلُه في الركاب، لم يَنْزِلْ عن فرسِه.
ومن لطيف شعرِه:
لسانِي كَتومٌ لأسْراركمْ … ودَمعِي نَمُومٌ بِسِرِّ مُذِيعْ
فلولا دُمُوعِي كَتمْتُ الهوى … ولولا الهوَى لم يكُن لي دُموعْ
وقد بعثَ خادما له ليلة من الليالي، ليأتِيَه بجاريةٍ كان يهْواها، فأطال عندَها المكْثَ وتمنَّعت الجارية من المجيء إليه حتى يأتي إليها بنفسه، فأنْشأ المأمون يقولُ:
بعثْتُك مُشْتاقا ففُزْتَ بنَظْرةٍ … وأغْفَلْتني حتى أسأتُ بكَ الظَّنَّا
وناجَيْتَ مَن أهْوَى فكنتَ مُقرَّبا … فياليتَ شِعْرِي عن دُنُوِّكَ ما أغْنَى
ورَدَّدْتَ طَرْفا في مَحاسن وَجْهِها … ومَتَّعْتَ باسْتِمْتاعِ نَغْمَتِها أُذْنا
أرَى أثرًا في صَحْنِ خدِّك لم يكُن … لقد سَرَقتْ عَيْناكَ من حُسْنِها حُسْنا
ولما ابْتَدَع المأمون ما ابْتَدَع من التَّشَيُّع والاعْتِزال، فرِح بذلك بِشْرٌ المرِيسِيُّ، وكان شيخا للمأمون في ذلك، وأنْشَد:
قد قال مَولى الوَرى وسَيِّدُنا … قَوْلا له في الكتابِ تصْدِيق
إنَّ عليًّا أعْنِي أبا حسَنٍ … أفضلُ مَن أرْقَلَتْ به النُّوقُ
بعدَ نَبيّ الهُدَى وإنَّ لنا … أعْمالنا والقرآنَ مخْلوقُ
فأجابه بعضُ الشعراء من أهل السُّنة، فقال:
يا أيُّها الناس لا قَوْلٌ ولا عملٌ … لمن يقولُ كلامُ الله مخلوقُ
ما قال ذاك أبو بكر ولا عمرُ … ولا النبيُّ ولم يَذْكرْه صِدِّيقُ