ولم يقلْ ذاك إلا كلُّ مُبْتَدِعٍ … على الإله وعند الله زنْديقُ
أصيحُ يا قومُ عَقْلا من خَليفتِكم … يُمْسِي ويُصيحُ في الأغلال مَوْثوق
وقد سأل بشرٌ من المأمون أن يطْلُبَ قائلَ هذه الأبيات، فيؤدِّبَه على ذلك، فقال له: وَيْحَك، لو كان فقيها لأدَّبْتُه، ولكنَّه شاعرٌ، فلستُ أعْرِضُ له.
ولما تجهَّز المأمون للغَزْو، في آخر سَفْرةٍ سافَرها إلى "طَرَسوسَ" اسْتَدْعَى بجاريةٍ كان تُحِبُّها، وقد اشْتراها في آخر عمرِه، فضمَّها إليه، فبكتِ الجاريةُ، وقالتْ: قتلْتَنِي يا أميرَ المؤمنين! بسَفَرك هذا. ثم أنْشأتْ تقول:
سأدْعو دَعْوَة المضْطَرِّ رَبًّا … يُثيبُ على الدُّعاء ويسْتَجيبُ
لعلَّ اللهَ أن يَكْفِيكَ حَرْبًا … ويَجْمعَنا كما تَهْوَى القلوبُ
فضمَّها إليه، ثم أنْشأ مُتَمثِّلا يقول:
فيا حُسْنَها إذَ يَغْسِلُ الدَّمْعُ كُحْلَها … وإذ هِيَ تُذْرِي الدَّمْعَ منها الأنامِلُ
صَبيحةَ قالتْ في العِتاب قَتَلْتَنِي … وقَتْلِي بما قالتْ هناك تُحاوِلُ
ثم أمر الخادم: مُرُوا بالإحْسان إليها، والاحْتفاظ عليها حتى يرجعَ، ثم قال: نحن كما قال الأخْطَل:
قومٌ إذا حارَبوا شَدُّو مآزِرَهم … دُون النِّساء ولو باتَتْ بأطْهارِ
ثم ودَّعها وسافر، فمرِضت الجارية في غَيبته، ومات المأمون أيضًا.
وقيل: إنّه لما مات جاء نَعِيُّه إليها، تنفَّسَت الصُّعَداء، وحضرَها الموتُ، وأنْشأت تقول، وهي في السِّياق:
إنَّ الزمان سَقانا مِن مَرارتِه … بعدَ الحلاوَة أنْفاسا فأرْوانَها
أبْدَى لنا تارةً منه فأضحكَنا … ثم انْثَنَى تارةً أخرَى فأبْكَانا
إنا إلى الله فيما لا يزالُ لنا … من القضاء ومن تَلْوِينِ دُنْيانا
دُنيا نَراها تُرِينا مِن تَصَرُّمِها … ما لا يَدومُ مُصافاةً وأحْزانَا
ونحن فيها كأنَّا لا يُزايلُنا … عيشٌ فأحْياؤُنا يَبْكونَ مَوْتانا